أنقذت روسيا أوباما وخذلت أمريكا حلفاءها العرب
د. مثنى عبدالله
September 16, 2013
طوال عامين ونصف العام كانت
روسيا دولة اللاءات في مجلس الامن في الملف السوري، لكن موقفها هذا لم يكن أنطلاقا من موقف العناد من أجل العناد، بل كانت على دراية تامة بالتحولات التي طرأت على السياسة الخارجية الامريكية، وتعرف جيدا أن أولوياتهم أصبحت آسيا الوسطى، حيث المارد الصيني الذي وثب، وأن أوباما جاء الى البيت الابيض بوعد إعادة القطار الامريكي الى السكة التي أخرجه منها سلفه، وأن الولايات المتحدة الامريكية في هذه المرحلة لن تذهب الى حرب الا بقيادة من الخلف أو تكليف طرف آخر للقيام بها.
لذلك تركت روسيا حرية الحركة لامريكا وأوروبا للمتاجرة بالملف السوري طوال الفترة الماضية، واتخذت لنفسها دورا سلبياً في مجلس الامن كان فقط إجهاض المشاريع المقدمة بشأن الازمة، حتى أصابت الجميع حالة من العجز التام، وراحوا يفتشون عن أي مخرج يُرضي الروس لكنهم فشلوا، حتى رئيس المخابرات
السعودية بندر بن سلطان حاول أن يدلي بدلوه لاحداث خرق في موقفهم، لكنه نسي أن الروس لا يعانون ما تعانيه أوروربا من أزمة اقتصادية، وأن أبواب صرف الاموال لديهم لم تتأثر قط بحالة الركود الاقتصادي العالمي، وأن روسيا لا تُصدّر الا النفط، وبالتالي فان استمرار الوضع السوري كما هو عليه، وتطاير شرره الى الدول الاخرى في المنطقة وتدخل الاخرين في الحرب على الاراضي السورية، كلها عوامل تؤدي الى ارتفاع اسعار النفط وزيادة المداخيل الروسية، أي أنه عامل ايجابي للمصالح الروسية وليس العكس. فعاد الرجل بخُفّي حنين، لانه ليس لدينا نحن العرب سوى المال نعرضه على الاخرين كي نكسب مواقفهم، كما أن الروس يعرفون جيداً التحالف الاستراتيجي بين المملكة والامريكان، وهم لا يحبون اللعب في ساحات الاخرين. ثم جاءت الضربة المأساوية في دمشق بالسلاح الكيميائي فوضعت الملف السوري على طاولة أوباما من جديد مجبراً لا بطل.
كان الرجل غير مهتم اطلاقاً بالملف السوري لاعتبارات كثيرة، منها ان الشعب الامريكي غير آبه بما يجري، حتى ان مؤسسة ‘غالوب’ للابحاث وجدت من خلال استطلاعاتها، أن هذه القضية لا تحوز الا على المرتبة الخامسة في اهتمام الرأي العام الامريكي، وان البطالة والحالة الاقتصادية هي الاولى لديهم. كما ان الادارة الامريكية لم تجد مالكيا جديدا أو كرزايا آخر، يجلسونه على العرش السوري، فالمعارضة أخفقت كثيرا حتى في التوصل الى حد أدنى من الاتفاق على خط الشروع، وكانت قد استبدلت عدة مرات وفي فترات متقاربة رأسها القيادي بسبب خلافات شخصية وبسبب اختلاف حواضنها التمويلية. كما أن المكاسب على الارض ليست مُغرية بما فيه الكفاية كي يتحرك لوضع حد للملف، وبالتالي فان وجود نظام ضعيف في
سورية يفيد أمريكا واسرائيل أكثر من انهيار كامل للنظام قد تعقبه نتائج سلبية كبرى أكثر ضررا مما حصل في
العراق، بحكم موقع
سورية الحدودي مع
اسرائيل. لكن المُحرج له في الضربة الاخيرة، أنه كان قد وضع منذ زمن موضوع استخدام السلاح غير التقليدي خطاً أحمر في القضية السورية، وبالتالي جعلها قضية حقوق انسان ودفاع عن قيم عليا ادعى بها، حتى أصبحت مواجهة هذا الموضوع جزءاً من التزام قطعه على نفسه لحلفاء عرب وأجانب، لكن الدافع الاكبر الذي جعله يفكر في توجيه ضربة الى النظام في
سورية ليس حقوق الانسان اطلاقاً، بل هو الملف النووي الايراني. أي أنه أراد من الضربة العسكرية أن تكون برهاناً للايرانيين بأن أمريكا اذا قالت فعلت، وان عدم التنفيذ سوف يعطي للايرانيين مؤشرا الى أن أوباما متردد مما يجعلهم يمضون أكثر في برنامجهم.
لكن الخطة الامريكية الجديدة بقيادة الحروب من الخلف، أو بمن ينوب عنهم، تدحرجت برفض البرلمان البريطاني المشاركة في العمل العسكري ضد سورية، الذي أغرى بقية برلمانات الدول الاوروبية التي كانت مرشحة للمشاركة في الجهد العسكري على سلوك نفس الطريق، ولكي يتخلى عن التزاماته أمام شعبه بعدم الدخول في حروب جديدة وكي يكسب مزيدا من الوقت، تطوع لطرح الملف على الكونغرس في وقت هو ليس بحاجة الى ذلك وفق الدستور، بل ان فعلته تلك أكدت بما لا يقبل الشك مقدار الحيرة التي تنتابه وعدم امتلاكه أية استراتيجية متماسكة تجاه هذا الملف، بل كان وزير الخارجية الروسي لافروف طامعاً في اغراق أوباما في حيرة أكثر عندما أعلن صراحة أن بلاده لن تكون جزءا من المواجهة العسكرية في سورية، لانه يعلم جيدا أن الامريكان والغربيين لم يكونوا جاهزين لتنفيذ الضربة، ولان التحالفات على الارض السورية كانت استراتيجية وليست مرحلية، فقد تعادلت الكفة ولم ينتصر النظام ولا الثوار.
ولان الضامنين الدوليين والاقليميين لم يحصلوا على مكاسب حقيقية على الارض، ظلت الاطراف الخارجية تضغط باتجاه الحل السياسي، خاصة الامريكان، عندها تحرك بوتين ‘كولونيل المخابرات السوفييتية السابق’ لينقذ أوباما من حيرته، فطرح قضية نزع السلاح الكيماوي، وعندما تعلق بها أوباما كمن كان ينتظرها بفارغ الصبر كي يهرب من استحقاقات الضربة العسكرية، سارع بوتين لاستـــغلال الموقف وفرض شروطه فقال (ان هذا المشروع لا يمكن أن يترجم الى خطوات عملية الا إذا سحبت الولايات المتحدة تهديدها باستخدام القوة)، وبذلك يكون الملف السوري قد دخل في نفق مظلم بعدما أصبح ليس قضية شعب يذبح، بل قضية كيف ومن أين نبدأ بعملية نزع السلاح الكيماوي وتدميره، وكأن قتل الابرياء حرام بهذا السلاح وحلال بغيره.
واذا ما أخذنا تجربة العراق في قضية أسلحة الدمار الشامل المزعومة، وكم أخذت من السنين، سنجد أنه سيكون أمام قتلة شعبنا في سورية مزيد من الوقت ربما يصل الى سنوات أخرى كي يقتلوا ويدمروا أرضاء لشهواتهم ونوازعهم السلطوية. لقد تعامل الامريكان والروس بدهاء في الملف السوري وحافظوا على توازنات المصالح ومراكز النفوذ بينهما، وليس لصالح القيم الانسانية التي كانوا يدّعونها، والتي خلفوها وراء ظهورهم.
أيضا هراء ذلك القول الذي يدعي أن الايرانيين أبلغوا بوتين بأنهم سيدخلون بكل ثقلهم في المعركة الى جانب النظام السوري مما دفعه لتعديل موقفه من القضية. لو كان التأثير الايراني على روسيا الى هذا الحد لما صوتت روسيا على القرار 1929 الذي فرض الحصار على
ايران، انه تهويل مقصود لاظهار
ايران بانها المُنقذ للعرب بينما كانت كل معاركها داخل الوطن العربي. فكيف تُغامر من أجل العرب؟ كما أن روسيا دولة عظمى ولديها مصالح سياسية في المنطقة ومصالح اقتصادية تتعلق بمد انابيب نقل الغاز الروسي عبر سورية، وأن كل هذه المصالح تدفعها كي تكتب على جدران المنظمة الدولية ‘ان لا شيء يمكن تسويته من دون روسيا’. هذه هي قوانين اللاعبين الكبار في العالم، وليس استجابة لايران او غيرها، بل ان المرحلة الحالية تؤشر الى أن التفاهم بين الروس والامريكان هو شعار المرحلة بعيداً عن أجواء الحرب الباردة التي لن تعود.
لقد بات الجميع موجودين في سورية، أمريكيين واوروبيين وروسا وأتراكا وايرانيين وذيول ايران أيضا، وهم جميعهم يدافعون عن مصالحهم، الا العرب فانهم موجودون للدفاع عن مصالح الاخرين فيها لعدم وجود مشروع عربي لديهم لانقاذ سورية، كما أنهم يجهلون تماما متطلبات الامن القومي العربي، لذلك باعهم الامريكان على طاولة بوتين وذهبت ملياراتهم التي صرفوها في سورية أدراج الرياح.
الغريب أنهم شتموا الروس في كل مرة كانت روسيا تستخدم فيها الفيتو في مجلس الامــــن ضد قرارات تخص القضية السورية، وكانوا يعتبرون الامريكان المخلص الوحيد لقضيتهم، لكنهم صمتوا اليوم أمام موقف حليفهم الامريكي الذي باعهم وخذلهم. هل ستكون الخطوة الروسية هذه فرصة لظهور أسنان حادة لحلف روسي ايراني سوري عراقي لبناني؟ سنستعرض ذلك لاحقا.
‘ باحث سياسي عراقي