التعلم من تجارب الشخصيات والشعوب والدول الناجحة هو صفة لازمة للشخصيات المتميزة، التي يهمها أن تصل في نهاية المطاف إلى ما فيه الخير والسعادة للناس جميعاً، دون النظر لدينهم، أو عرقهم، أو قوميتهم، أو لغتهم، والساسة الناجحون هم أولى من غيرهم في ضرورة الاستفادة من التجارب السياسية والإنسانية لقادة دول العالم.
وقبل أيام رحل الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، وكان هذا الخبر حدثاً محورياً في غالبية نشرات الأخبار الأجنبية والعربية، وفي وسائل الإعلام المتنوعة، وجميع الذين تحدثوا عن الرجل ذكروا حقيقة ثابتة في حياة هذا المناضل الثورية السلمية، واتفقوا على أن
مانديلا هو رمز السلام، وهو صانع الديمقراطية الحقيقية في جنوب أفريقيا.
في يوم وفاة
مانديلا توجه الملايين من المواطنين في شتى أنحاء البلاد» إلى الكنائس مشاركين في صلوات رددوا خلالها الأدعية والترانيم من أجل أول زعيم أسود للبلاد». وبعد أكثر من أسبوع على رحيل
مانديلا لا يزال سكان البلاد يعيشون على وقع الرقص وإنشاد الأغاني، وهم يحملون صور (ماديبا) كما يحلو للكثير منهم تسميته؛ وكل ذلك تخليداً لذكراه في قلوبهم، وعقولهم.
وفي ساحة نيلسون
مانديلا وسط مدينة جوهانسبورغ وضع المواطنون أكاليل من الزهور، وعبروا عن حبهم لقائدهم القدوة، ونقلت بعض وكالات الأنباء والصحف مشاعر التقدير الشعبي لهذا الرجل التاريخي، إحدى المواطنات قالت:» لقد كان
مانديلا أب الجميع في جنوب أفريقيا، حمل السلم إلى البلاد؛ هو مثال للسلم في جميع أنحاء العالم»، وأكدت مواطنة أخرى على أنه:» يجب على كل جنوب أفريقي أن يخلد ذكراه وإرثه»، وأضاف مواطن آخر:» حالياً نتحدث عن الحرية والمصالحة والعدالة بغض النظر عن لون بشرتنا، وهو الأمر الذي لم نعرفه قبل أن يدخل
مانديلا إلى السجن».
مانديلا الذي قصى (27) عاماً في السجن قبل أن يصبح أول رئيس أسود للبلاد في عام 1994، لم يهدف خلال رحلة كفاحه لتحقيق منصب ما، بل أراد قتل روح العنصرية، ونشر المحبة والسلام.
وفي مرحلة جني ثمار الصبر والتضحيات، صار «
مانديلا الأسود» قائداً لجميع المواطنين البيض والسود، على حد سواء، إلا أنه- وفي عام 1999، وبعد أن أخذت السنين حقها من جسد المناضل الصابر- قرر اعتزال السياسة، بعد أن أمضى فترة رئاسية واحدة، ولم يتشبث بالمنصب؛ اعتقاداً منه أن هناك من يستطيع أن يقدم الأفضل لشعبه، وهكذا- وبكل هدوء- غادر
مانديلا القصر الرئاسي، مثلما غادر هذه الحياة الفانية، ولم تغره الزخارف، والبهرجة الزائفة.
وهكذا حال القادة الذين يعرفون قدر أنفسهم، ويعلمون أن غيابهم عن المشهد السياسي لن يغيبهم عن عقول المواطنين وقلوبهم، وهذا ما حدث لمانديلا، فحينما أُعلن نبأ وفاته، رأينا كيف أن جميع مواطنيه، والملايين من قادة العالم وزعمائه وشعوبه بكوا القائد مانديلا!
هذا هو مانديلا، وهذه هي حياته، حياة مليئة بالتضحية والصبر والصمود؛ من أجل المبادئ والقيم العليا، وتجربة هذا الرجل هي مدرسة حية وقريبة منا جميعاً، ولا بد من الاستفادة منها، وذلك باتباع سلوكه في الوصول إلى ما فيه منفعة الناس، فالرجل- وعلى الرغم من أن خصومه حكموا عليه بالسجن لأكثر من عقدين ونصف، ورغم ألوان التعذيب والبطش التي ذاقها على يد جلاديه من أبناء وطنه- إلا أنه، وحينما أصبح الرجل الأول في البلاد لم يستخدم، أو لم تسيطر عليه الروح الانتقامية الحيوانية، الداعية لضرب خصومه، بل رفع شعار نحن أبناء اليوم، ولنبدأ جميعاً حياة جديدة!
فهل يا ترى، يا « زعماء
العراق اليوم»، يا من ملأ غالبيتكم حياة المواطنين بالألم، هل ستتعلمون من هذه التجربة التاريخية القريبة، أم أن النظرة الضيقة وجاه السلطة والمال جعلتكم في عالم آخر؟!
وداع
مانديلا كان احتفالية وطنية قل نظيرها، فهل إذا رحل
ساسة العراق الحاليين سنحتفل فرحاً بالخلاص منهم، أم سنبكي حزناً على رحيلهم؟!