وسلاما عليك يا
فلوجة للمرة الرابعة :
هيفاء زنكنة January 6, 2014
منذ ايام وحكومة نوري المالكي، الامين العام لحزب الدعوة، تحاصر وتقصف مدينة الفلوجة في محافظة الانبار، غرب
العراق، مستخدمة الاسلحة والصواريخ المتطورة التي قامت الادارة الامريكية بتزويدها بها، اخيرا. يبرر المالكي قصفه للمدينة التي شهدت اعتصامات سلمية، لمدة تزيد على العام، مطالبة باطلاق سراح المعتقلين ووضع حد للتمييز الطائفي، بانه يقود حربا ضد الارهاب ولن يتوقف ما لم يقض على الارهاب.
هذه ليست المرة الاولى التي تتعرض فيها مدينة الفلوجة الى التدمير بحجة محاربة الارهاب. ففي عام 1941، قبل 73 عاما، حاولت قوات الاحتلال البريطاني دخول الفلوجة لتأديب المقاومة ضد المحتل. يومها، كان العراق تحت الاحتلال البريطاني غير المباشر، مربوطا، كما هو اليوم، بمعاهدات شاملة مع المستعمر. حينئذ، كتب الشاعر معروف الرصافي ( 1875 1945)، قصيدة الفلوجة المشهورة التي بدأها بقوله : أيها الانكليز لن نتناسى بغيكم في مساكن الفلوجة / ذاك بغي لن يشفي الله – إلابالمواضي جريحة وشجيجه. واختتمها قائلا : ما حياة الإنسان بالذل إلا مرة عند حسوها ممجوجة / فثناء للرافدين – وشكرا
وسلاما عليك يا فلوجة. وهي قصيدة وصف الناقد احمد علي محمد ما دفع الرصافي الى كتابتها بانه التفاتة الشاعر ‘ الى فعل البطولة الذي سطره أبناء العراق ضد الاحتلال الانكليزي، فيتأمل ما حل بأهل الفلوجة، وهم يستقبلون مدافع الإنكليز بصدورهم، فيستحضر التاريخ من جديد، لا بل يرسم بداية للتاريخ العربي مبتدئاً بالخطوة الأولى وهي المقاومة على اعتبارها منطلق حياة جديدة، ومخرجاً أساسياً من التبعية والتخلف والانهيار’.
بعد عام من الغزو الانكلو امريكي للعراق، اشتبك سكان المدينة مع قوات الاحتلال لسبب يماثل، تماما، السبب الذي يدفع نظام المالكي ‘الديمقراطي’ الى حصار وقصف المدينة، حاليا، وهو التظاهر السلمي. كانت الفلوجة واحدة من المدن العراقية التي تفاوضت مع قوات الاحتلال، حفاظا على سلامة السكان والمدينة، بشرط عدم دخولها إلى مركز المدينة. الا ان القوات احتلت مدرسة ابتدائية، فتظاهر الأهالي، سلميا، مطالبين باخلائها في 28 نيسان/ابريل 2003 . فاطلقت قوات الاحتلال النار على المتظاهرين (كما فعل نظام المالكي في ضواحي الفلوجة والحويجة أخيرا) مما ادى الى قتل 17 من أهالي المدينة واشعال فتيل معركتي الفلوجة.
جاءت معركة الفلوجة الثانية في نيسان / ابريل 2004 بعد مهاجمة السكان للمرتزقة وتلتها معركة الفلوجة الثالثة بعدما ضاعفت القوات الأمريكية تعزيزاتها 7 مرات عن المعـركة الأولى وتم فرض الحصار وقصف السكان، لانجاز ما اعلنه أحد ضباط المارينز قائلا: ‘نحن ذاهبون لمحو الفلوجة’. يومها، استخدم الفسفور الأبيض، والقنابل العنقودية. في هجوم وحشي، هو الاكبر منذ حرب فيتنام، حيث اجهزت قوات الاحتلال على الجرحى ومثلت بجثث الشهداء، وسحلتهم بحبال الدبابات. وتم تهديم 70 بالمئة من مباني المدينة وتدمير مساجدها. كل ذلك، نفذ برعاية حكومة أياد علاوي، رئيس القائمة العراقية الآن، وبحضور ذات الساسة المتصارعين فيما بينهم على الانتخابات المقبلة.
ان الهجوم الذي يقوده نظام المالكي، حاليا، ضد الفلوجة، يماثل في جوهره ما فعله المحتل البريطاني والامريكي برعاية الحكومة المحلية واجهة المحتل، لأسكات اصوات المحتجين على الاعتقالات التعسفية، والسياسة الطائفية، وانعدام السيادة الوطنية، وصولة الميليشيات، والفساد المستشري بحجة مكافحة الارهاب.
في الفلوجة والرمادي، لا احد يعرف بالضبط عدد الضحايا في الوقت الحالي، خاصة وان كل اجهزة الاتصال والتواصل مقطوعة والبيانات والتصريحات والصور التي تكررها اجهزة الاعلام صادرة من جهة واحدة هي الجهة الرسمية. بسبب الحصار والقصف والمعارك، نزحت حوالي 9000 عائلة من الفلوجة. الأمان لم يتحقق في بقية انحاء العراق، فالتفجيرات الارهابية مستمرة في بغداد وغيرها والضحايا بلا معين. بيانات النظام المتضمنة نجاحاته في اعتقال وقتل مئات ‘الارهابيين’، تتنافى مع كل تقارير المنظمات الحقوقية الانسانية الدولية المؤكدة للاعتقالات والاعدامات غير القانونية وفي ظل نظام قضائي تصفه هذه التقارير الدولية بانه ‘ غير نزيه’ و’لا انساني’. كما تتنافى بيانات النظام وتصريحاته مع الواقع العراقي. فبعد ما يقارب الاحد عشر عاما من تأسيس ‘العراق الجديد’ وتمتعه بميزانية هائلة، هي الأكبر في تاريخ العراق، وبجيش وقوات امن وشرطة وصحوة ومجالس اسناد، وفرق خاصة، من بينها الفرقة القذرة او الذهبية، التي تفاخر بها احد قادة الاحتلال باعتبارها ‘واحدة منا’، وباجهزة اعلام تبث على مدى 24 ساعة برامج لاثارة المشاعر والغرائز الطائفية، الشعبوية، لصالح النظام، من الذي يجب ان يحاسب على توفير الأمن والخدمات وحقوق الانسان؟ كيف يمكن للمواطن العادي المهموم في كل لحظة بالحصول على الاساسيات والمحافظة على حياته بفرز ماهية الارهاب، ومن يرتكب الافعال الارهابية ولكل حزب مشارك في العملية السياسية ميليشيا تصول وتجول كما تشاء بحجة محاربة الارهاب؟
لقد اصبح ‘الارهاب’ شماعة لتبرير كل الافعال الهمجية المرتكبة ضد المواطنين. بل أصبح تضخيمه، بل وأحيانا إصطناعه، من أسهل الطرق لتثبيت أي طغمة حزبية أو عسكرية في السلطة رغم فشلها المريع في أبسط واجبات الحكم الرشيد. وهل هناك ما هو اسهل من تخويف الناس ببعبع ووحش كاسر انفقت
امريكا المليارات من الدولارات على تضخيمه ليقدم باعتباره العدو رقم واحد في العالم كبديل للشيوعية؟ هل تذكرون كيف تم تحشيد دول العالم لمحاربة الشيوعية، وهي ذات الدول المجتمعة تحت راية ‘الحرب على الارهاب’، ومن بينها
السعودية،
ايران،
اسرائيل، امريكا، مجلس الأمن ودول حلف الناتو الممتدة الى اقصى افريقيا حاليا ؟ هل تذكرون كيف تم تضخيم قوة الجيش العراقي السابق، الذي لم يكن لديه أي سلاح حديث، لتبرير غزو العراق؟
لا غرابة، اذن، تحت راية الوحدة لمحاربة ‘الارهاب’ ان يعلن مساعد الشؤون اللوجستية للاركان العامة للقوات المسلحة الايرانية العميد محمد حجازي، استعداد ايران لتقديم الدعم للعراق من حيث الاستشارات او المعدات ( وكالة انباء فارس 5 كانون الاول/ ديسمبر 2014) ، ولاغرابة ان يؤكد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في ذات اليوم، على مساندة واشنطن للعراق في معركته ضد ‘الارهابيين’.
نعم، وصلنا اليوم رشاش ظاهرة عالمية من دورات متصاعدة من العنف والإرهاب، بدأت بين القوى الإستعمارية والشعوب العربية والإسلامية الأخرى المغلوبة على أمرها، وإنتهت بجرائم وردود افعال بين السلطات المحلية الفاسدة القمعية (تحكم غالبا بالنيابة) والشرائح المهمشة من المجتمع. لهذه الصراعات أصول مختلفة، بعضها مصطنع، وبعضها جنوني من افراد ينتقمون لكرامتهم المهانة، أو حكاما يدافعون عن مصالحهم وتشبثهم بالسلطة مهما كان الثمن، وبعضها الثالث لا يختلف جوهريا عن حركات التحرر الوطني وثورات الشعوب من أجل الكرامة والحرية والديمقراطية. بدون الرجوع الى الاسباب العميقة لهذه الصراعات والتمييز بينها، والتوجه لمعالجة اسباب لجوء الناس الى الانتفاضة وحتى العنف، سيبقى أكثر الناس كفاءة وعطاء على هامش صراعات تدمر بلداننا وتمزق مجتمعاتنا، وتمسح تراكم ما بنته أجيال عديدة من بدايات الحضارة. ولا تدل ممارسات النظام الطائفي ازاء المحتجين والمعتصمين وحصار وقصف المدن والعقوبة الجماعية بانه يرغب في المحافظة على وحدة العراق ونسيجه الجماعي مهما كانت رطانته اليومية عالية.
‘ كاتبة من العراق