الرئيس العراقي نوري المالكي خلال زيارته لمكان حادث مقتل بديوي
الدكتور رشيد الخيون
كان مسرح حادثة قتل الإعلامي، والمدرس في الجامعة المستنصريَّة، محمد بديوي، منطقة الجادريَّة، مدخل رئاسة الجمهورية (السبت 22 مارس آذار 2014)، والقاتل ضابط في فوج الرّئاسة، ويدرس في كلية العلوم السياسية- بغداد.
فهمت مِن صديق وجارٍ للقتيل، وزميل دراسة، في الوقت نفسه، للقاتل أحمد مصطفى، أن مشادة جرت بسبب تأخير التفتيش، فحصل الشِّجار وتبادل الشَّتائم، ثم إطلاق النَّار مِن قبل الضّابط، وذكر أن الزملاء في الكلية وممن عرف القاتل استغرب مِن تصرفه الإجرامي هذا، فكان شابًا ودودًا.
حسب ما جاء في تصريح رئيس الكتلة النِّيابية الكردستانية فؤاد معصوم أنه أبلغ رئيس الوزراء بمكانه لاعتقاله، قال: إن “المالكي اتصل بي في نحو الساعة الثالثة عصرًا ليخبرني بوقوع هذا الحادث الأليم قائلاً لي: نحن الآن في وضع حرج، ولا بد من تسليم القاتل الذي ينتمي إلى أحد الأفواج المكلفة بحماية مقرات رئاسة الجمهورية”.
ويضيف معصوم: «بعد مضي فترة قصيرة أخبروني أن الجاني توجه إلى منطقة المنصور من موقع الحادث بالجادريَّة؛ وقد جرى تحديد مكانه وأبلغتُ الجهة المعنية هناك بالتحفظ عليه ريثما تصل القوة التي جرى تكليفها بإلقاء القبض عليه…
اتصلتُ بالمالكي لكي أبلغه بالخبر، فوجدت هاتفه مشغولاً، فبعثتُ له رسالة هاتفية بشأن تحديد موقع الجاني وذهاب القوة الخاصة لإحضاره. غير أن المالكي -وبعد نحو ربع ساعة- اتصل بي ليخبرني بتطورات الموقف، فأخبرته أن المسافة بعيدة بين الجادريَّة والمنصور، والطرق مزدحمة، وبالفعل فقد جرى إلقاء القبض عليه هناك، وجرى تسليمه بشكل أصولي إلى الجهات المسؤولة». (الشَّرق الأوسط 26 آذار/ مارس 2014).
على أية حال، أُعتقل القاتل، ولم يظهر أحد يبرر الجريمة النَّكراء، وشخصيات وصحف كرديَّة سارعت إلى استنكارها، مع الاحتراز مِن تسييسها، كون القاتل كان كرديًّا والمقتول عربيًّا، وبالإشارة إلى حضور رئيس الوزراء إلى مسرح الجريمة، وكلماته الانفعاليَّة في هذه الأجواء المدلهمة.
مع ذلك أرى أن حضور رئيس الوزراء نفسه ليس بالأمر المستنكر. غير أن ما أُخذ عليه عدم حضوره إلى مسرح عمليَّة قتل واحدة سواها، لا لقتل إعلامي، والعدد حتى الآن نحو (360) بين إعلامي وصحافي، ولا أساتذة الجامعات عبروا الـ (400)، وكبار موظفي الدَّولة واغتيالات كاتم الصَّوت وقتل المتظاهرين.
لو كان رئيس الوزراء مهتمًا في تلك الملفات، مِن البدايَّة لا في هذه الأيام، لأغلق الأفواه. ثم أظهر كأن هناك مَن يتستر على الجريمة، والنَّظر يُلفت طبعًا إلى الكُرد! بينما هم الذين بلغوا وسلموا القاتل.
يجرى النِّقاش أن يذهب رئيس الوزراء، بهذه السّرعة، إلى مكان الحادث وبرفقة الفضائية “العِراقيَّة”، ذلك ما يأخذنا إلى تخمين آخر غير ما يُراد مِن رئيس الوزراء، وهو التَّظاهر لا التفاعل مع الحادثة الأليمة.
قرأت تصريحه ولم أُصدق، فأخذت أبحث عن كلامه صورةً وصوتًا، فوجدته يقول: “أنا ولي الدَّم، ولكلِّ مَن له أي صِلة بهذه الجريمة يجب أن يمثل أمام القضاء، والدَّم بالدَّم”. أقول: ينقصها “أنا ابنُ جلاء وطلاع الثَّنايا/ متى أضع العِمامةِ تعرفوني”! حتى نُسي قائلها سُحيم بن وثيل الرِّياحي (ت 60 هـ)، وصارت لمن استشهد بها.
استغل مندوب “العِراقيَّة” المشهد فسأل المالكي عن منعها مِن دخول البرلمان؟ فأجاب المالكي ما حرفه: “العراقية ما لهم حق (يقصد مجلس النواب أو رئيسه) أن يمنعوها. ولولا احترامنا أن تبقى الأمور هادئة وإلا تَدخل بالقوة”(العراقية، مساء السبت 22 مارس 2014).
إن مفردة “تدخل بالقوة” نفسها وبالحرف، التي بثتها “العراقيَّة” مِن تصريح نوري المالكي، قد سبق أن سببت بإقالة رئيس جمهورية بلغاريا (1989- 1990)، بعد الحقبة الاشتراكيَّة زمن الدِّيمقراطيَّة، عندما كان المتظاهرون يشغلون الساحة التي يقع فيها البرلمان وسط صوفيا، غضب، وقال: “هؤلاء يحتاج لهم القوة”! وما أن بُثت العبارة تقدمت المحكمة العليا فوجهت بإقالة رئيس الجمهوريَّة، وحصل ذلك، ولو لم يحصل ما تنعموا بالدِّيمقراطيَّة بعدها.
فهل ستوجه محكمتنا العليا المالكي ولو بطلب تفسير لهذا الكلام مِن قِبل رئيس الوزراء، وهو ينوي استعمال القوة في اجتياح البرلمان، وأية قوة؟ الجيش والمفروض أنه الجيش العراقي، الذي لا يتحرك، حسب الدُّستور إلا بقرار مِن البرلمان، ولا يتدخل في السِّياسة؟
أما عبارة المالكي الأخرى: “أنا ولي الدم” فهي تجيز له أخذ الفدية عن دماء العِراقيين، فولي الدَّم حسب الشَّريعة -الذي يود المالكي تطبيقها- مِن حقه التَّنازل عن دم ابنه أو أخيه أو عبده، واعتقد الفدية التي يطلبها ليست لغزًا، ولاية ثالثة، مثلما حدث مِن قبل وأهملت ملفات، وسُكت عن دماء.
إلا أن الدّماء ناطقة ليست خرساء، وتبقى دماء المتظاهرين في ساحة التَّحرير، وغيرها مِن السَّاحات، تلطخ بوابة مجلس الوزراء وقوات سوات! فإذا كان وليًّا للدّماء ليكشف عن سفاكيها، وقد يجدهم حوله، ومِن مرشحي قائمته ورافعي صوره في الانتخابات.
عندما جرت سلسلة الاغتيالات باليمن (1990 وما بعدها) وصلت إلى (154 مغتالاً) خرج الرئيس علي عبد الله صالح، صورة وصوتًا حينها، يرد على الاحتجاجات ضد الاغتيالات اليومية، التي طالت الشُّركاء السِّياسيين، ومِن أفضل الكوادر الإداريَّة والسِّياسيَّة، وصُناع الوحدة، قال: “يريدون أن أضع مع كلِّ شخص شرطيًّا يحميه، هذا لا يستوي”!
لكن الرَّد نجده يأتي على لسان شاعر اليمن عبد الله البردوني (ت 1999)، ويحلو لليمنيين تسميته بالأستاذ، عندما قال ردًّا على سؤال أحدهم في مجلس السُّلطة: “لماذا لا تقول شيئًا في الدِّيمقراطيَّة”؟ وقد أعلنت الدِّيمقراطيَّة بعد الوحدة باليمن، فأجاب البردوني مع قهقهة: “الغيبة حرام…”!
فيا رئيس وزراء العراق لا تظن أن بعد خروجك هذا، وأنت تهدد “الدَّم بالدَّم”، مصطحبًا فضائية (العراقيَّة)، أن الدِّيمقراطيَّة تبقى حيَّة إنما الحديث عنها بدأ بمنطق “الغيبة حرام”.
أما البردوني فذلك الذي اكتشفه العِراقيون في مهرجان أبي تمام (شتاء 1971) عندما قال أمام من استخف بمنظره وملبسه، مِن شعراء العرب، فقلب استخفافهم إعجابًا: “ماذا أحدِّثُ عن صنعاء يا أبتي/ مليحةٌ عاشـقاها السِّـلُّ والجرَبُ/ ماتتْ بصندوقِ وضَّاحٍ بلا ثمنٍ/ ولم يمُتْ في حشاها العشقُ والطرَبُ”.
كذلك بغداد في عهد “ولي الدَّم” عاشقها السِّل والجربُ! أما وضاح اليمن فهو قتيل العشق، وقصته مشهورة (ابن حبيب، المغتالون في الجاهليَّة والإسلام).
يا رئيس الوزراء ثق كنا نريدك رئيسَ وزراء بالفعل، فكم مِن أفعال تروى عن نوري السَّعيد (قتل 1958)، وعبد الكريم قاسم (قتل 1963)، وعبد الرَّحمن البزاز (ت 1973)، منها العجائب في الإنسانيات والدَّوافع الوطنية، ولم يحرصوا على تسجيلها وبثها.
أما مأثرة بيع النِّفط بمقابل الذَّهب، فلم يتحدث بها ساسون حسقيل (ت 1932)، إنما رواه الآخرون عنه للفائدة الكبرى التي جناها العِراق منها.
لقد صغرت نفسك كثيرًا، ونحن مِن يوم توليت، بعد صاحب الكلام المتناثر، كنا نريدك كبيرًا في أقوالك وأفعالك، ولكنَّ…!
فمرة تظهر تُهدِّد بالقوة والدَّم، وأخرى تتفاخر بشجاعة ولدك، أو تتظاهر بمحاسبة شرطي في الشَّارع، فالذي قبلك لم يترك لك وسيلة للتَّظاهر تبدعها، مَن يدعي ذلك صدقًا لا يطلب مِن رئيس النَّزاهة “ما كو عندك ملف فساد ضد سنان الشِّبيبي”؟ وقال لك لا، الرَّجل نزيه بذاته. قالها لأنه قاضٍ يحترم نفسه، ومع ذلك أفسدت القضاء ودفعته يصدر مذكرة إلقاء قبض ضد محافظ البنك المركزي ونائبه وموظفيه.
فكيف تريد الاطمئنان لك، وأن يجعلك النَّاس “ولي دمائهم”!.