غياب رجل الدولة في العراق بريمر يذكر في مذكراته أن الشيعة كانوا يأتونه للمطالبة بمصالح طائفتهم وكذا فعل السنة والأكراد ولا أحد جاءه يطالب بمصالح العراق. العرب
د. قاسم حسين صالح [نُشر في 01/02/2015، العدد: 9815، ص(6)] رجل الدولة هو الذي يتمتّع بالنضج السياسي والخبرة والحكمة واعتماد القانون في تحقيق الأمن والعدل، وكاريزما تجعل مواطنيه، على اختلافاتهم الفكرية والإثنية والدينية، يعجبون بشخصيته فيمنحونه التقدير الإيجابي غير المشروط بالسلطة.وواقع العراق بعد التغيير (2003) قدّم صورة مناقضة لـ(رجل الدولة). ففي السنوات العشر الماضية بلغ المنهوب من الثروة الوطنية ما يعادل ميزانيات خمس دول عربية مجتمعة. وتجاوز عدد المشاريع الوهمية تسعة آلاف بكلفة مئات الترليونات العراقية، وأحاط الحاكم نفسه بأفراد أسرته وأبناء عمومته، معتمدا مبدأ الولاء، ومستبعدا الخبراء وذوي الكفاءة. وصارت الحقائب الوزارية والمراكز الحساسة في الدولة تباع وتشترى. وتحوّل الفساد من خزي إلى شطارة، فضلا عن تردّي الخدمات وزيادة من هم تحت مستوى خط الفقر إلى أكثر من خمسة ملايين عراقي رغم أن العراق يعدّ من أغنى البلدان.
والسؤال: لماذا لم تفرز الحياة السياسية في العراق بعد التغيير قائدا سياسيا بمستوى رجل دولة؟
المحللون السياسيون يعزون ذلك إلى أن التغيير في العراق جاء بتدخل أجنبي، ولو أن القوى السياسية العراقية كانت هي التي أطاحت بالنظام الدكتاتوري لأفرزت قائدا سياسيا يوحّدها، لكنها كانت أشبه بفرق عسكرية متجحفلة في خنادق، لكل خندق عنوان وقائد، يجمعها هدف التخلّص من النظام، وتفرّقها مصالح حزبية وطائفية وقومية. ولأن ما يجمعها انتهى بانتهاء النظام، فقد تولّت المصالح إذكاء الخلاف فيما بينها على حساب المصلحة العليا للوطن.
ويذكر بريمر في مذكراته، أن الشيعة كانوا يأتونه للمطالبة بمصالح طائفتهم، وكذا فعل السنّة والأكراد. ويضيف بأن لا أحد جاءه يطالب بمصالح العراق. وربما كان هذا هو السبب الذي دفع بريمر إلى أن يدق (التثليث) في شاصي العملية السياسية العراقية. فضلا عن أن الأحزاب السياسية طاردة للمفكرين من الطراز الرفيع، لأنها تحكمها أيديولوجيات وعقائد خاصة بها فيما العراق لا تستوعبه أيديولوجيا أو عقيدة محددة.
ومع صحّة هذا التحليل فإنه لا يقدم تفسيرا متكاملا، لإغفاله حقيقة أن الشخصية السياسية العراقية هي نتاج طبيعة المجتمع العراقي، الذي ينفرد عن المجتمعات الأخرى بأنه شعب منتج لأصناف متضادة من البشر بمواصفات عالية الجودة. فهو منتج لمبدعين ومفكرين وشعراء ورجال دين وشيوخ عشائر من طراز رفيع، ومنتج لقتلة ورعاع وغوغاء بمواصفات “عالية الجودة”. ففي (1958) قُتل أفراد العائلة المالكة وطاف الناس بكفوف أيديهم في حشود هائجة بهستيريا الفاقدين لوعيهم الإنساني. وفي (1963) قُتل عبد الكريم قاسم وآلاف الشيوعيين والوطنيين. وفي (1991) قُتل مئات البعثيين ووضعت إطارات السيارات برقاب عدد منهم وحرقوا وهم أحياء.
والعراقيون منتجون للطغاة. يرفعونهم للسماء حين يكونون في السلطة ويمسحون بهم الأرض حين يسقطون. وهم منتجون لمن يفلقون رؤوسهم بالحراب من أجل التاريخ والموت فداء لمن ماتوا، ومنتجون لمعتقدين عن يقين بأن تاريخهم مزوّر وأسود ومعرقل للتقدم، ومنتجون لمن يعرفون بالغيرة العراقية والأنفة، ومنتجون لناهبين من طراز رذيل، ولا أرذل من سلوك ينهب الناس فيه وطنهم وذاكرة تاريخه، حتى صيّروا الفرهود شطارة يتسابقون إليه حيثما حلّت بالوطن محنة.
والشخصية السياسية العراقية نتاج الأحداث أيضا، نلتقط منها حدثين أسهما في تشكيلها:
- اقتباس :
- المجتمع العراقي ينفرد عن المجتمعات الأخرى بأنه شعب منتج لأصناف متضادة من البشر بمواصفات عالية الجودة
الأول: أن التغيير في (2003) تجاوز هدفه من الإطاحة بالنظام إلى الإطاحة بالدولة التي نجم عنها ما نعدّه قانونا اجتماعيا نصوغه بالآتي:
(إذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى..شاع الخوف بين الناس وتفرقوا إلى مجاميع أو أفراد تتحكّمفي سلوكهم الحاجة إلى البقاء، فيلجأون إلى قوة تحميهميحصل بينهما ما يشبه العقد يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة).
من هنا بدأت “ثقافة الاحتماء” وحدث تحول اجتماعي سيكولوجي سياسي خطير، هو أن الشعور بالانتماء صار إلى القوة التي تحمي الفرد، فتعطّل الشعور بالانتماء إلى العراق وتحول إلى ولاءات لا تحصى.
الحدث الثاني هو: تبادل الأدوار بين السنة والشيعة. فالسلطة بيد السّنة العرب أكثر من ألف سنة، فيما كان الشيعة يقومون بدور “المعارضة” للزمن ذاته. ولقد فهم تبادل الأدوار هذا بين الطائفتين كما لو كان تبادل أدوار بين “الضحية” و”الجلاّد”. ومن هذا الشحن السيكولوجي اعتمدت الشخصية السياسية العراقية العزف على الوتر الطائفي لترويج نفسها بين طائفتها تمهيدا لفوزها بالانتخابات. ومنها تحديدا نشأ ما نصطلح على تسميته (البرانويا السياسية) التي لا يمكن أن تنتج رجل دولة.
فمن متابعتنا تأكد أن في القادة السياسيين العراقيين فرقاء مصابون بـ(البرانويا) التي تعني الشك المرضي بالآخر. كل فريق منهم صار يعتقد عن يقين (يقينه هو) أن الآخر يتآمر عليه لإنهائه حتى وصل الحال بهم إلى رفع شعار (لأتغدّى بصاحبي قبل أن يتعشّى بيّ). فتغدّى الجميع بالجميع بوجبات من البشر تعدت المئة ضحية باليوم بين عامي (2006 و2007) تحديدا. وما يزيد من حماقة البرانويا السياسية أنها إذا طبخت على نار الطائفية والعرقية صار شفاء أصحابها قريبا من المستحيل. وبالصريح المرّ فإن الشخصيات السياسية العراقية الحالية غير قادرة على أن تقتلع شكوكها وتحسن الظن بالآخر، لأن البرانويا برمجت خلايا أدمغتهم بثلاث عقد عبر الزمن: عقدة إنتاج الخوف الموروثة من الماضي وعقدة الرعب المعيش في الحاضر وعقدة توقع الشر والإفناء في المستقبل.
ومن متابعاتنا “الفضائية” تبين أن في البرلمان أفرادا مصابون بعصابيات مرضية؛ فمنهم من لديه ميول سادية وآخر شعور بالمظلومية وثالث يغلي في داخله برميل من الحقد؛ وغالبيتهم يمارسون “الأسقاط”. أعني ترحيل عيوبهم ورمي الفشل على الآخر، والانشغال بالتنقيب عن رذائل المقابل وتنزيه نفسه مع أن فيه من الرذائل ما لا يقلّ عن صاحبه. ولهذا كان البرلمان مصدر إحباط وتصعيد للتوتر بين الناس بدل أن يكون مصدر تطمين لهم. والواقع أن البرلمان العراقي لا يمثل الشعب بل هو نتاج البرانويا التي أشاعتها الشخصية السياسية، لدرجة أن جماهير الشيعة التي وصلت حد الجزع من سوء حالها الحياتي والخدمي (لحكومة شيعية) صارت تأتي بسياسي طائفي قليل الخبرة لأنه نجح في إخافتهم بأنهم إن لم ينتخبوه فإن “السنّة” سيفنونهم، وقل الشيء نفسه عن جماهير السنة.
في ضوء ذلك نستنتج حقيقة قاسية هي أن الشخصية السياسية العراقية خلقت واقعا سياسيا مأزوما من خصائصه أنه لا يمكن أن ينتج رجل دولة يحظى بقبول مجتمع متعدد القوميات والديانات والطوائف إلا بعد أن يتعافى العراقيون من أمراضهم ويأتون ببرلمان نوعي جديد.
رئيس الجمعية النفسية العراقية ومؤسسها