وترجّل حارث الضاري عن صهوة جواده/ د. مثنى عبدالله
17 /03 /2015 م 10:58 صباحا كلُ مجد إلى زوال إلا مجد البطولة، لأنها اختصار حاسم للمسافة بين العقل والقلب، وذوبان تام للخاص في العام. وحده رمز البطولة هو الذي تتقزّم الكلمات والعبارات أمام عرشه، وتذوي جُمُل الثناء والمديح والنعي والرثاء، فتلوي أعناقها في حضرته حياً أو ميتاً، حتى يستحيل الوصف إلى نوع من اللحاق به لعلنا نفيه حقه.. يأتي الموت على الجميع، لكن الخلود لا يأتي الا لمن أراد، وما بين الموت والخلود يقف النسيان عاجزاً عن أن يطوي الخالدين، بينما يطوي النسيان الأموات بمرور الأيام.. يلهثُ الكثير للحاق بالمجد والفوز بكلمة أو سطر يحسبه التاريخ لهم، بينما يلهث التاريخ للحاق بآخرين علّه ينير صفحاته بأفعالهم وبطولاتهم، وها هو الشيخ الجليل حارث سليمان الضاري ترجل عن صهوة جواده، وبات قمراً منيراً في صفحات التاريخ، يفخر به الشرفاء المضحين من أجل أوطانهم. كان الرجل يحمل على كتفيه إرثاً من المقاومة منذ عشرينيات القرن الماضي، وإرثُ البطولة يصبح عبئاً على من يتهيّب صعود الصعاب.
تصدى الجد والأب والأعمام والعشيرة للاحتلال الإنكليزي للعراق. كان الحاكم الإنكليزي يعتقد أن الأموال والجاه سوف تجعل الجد مستعداً لبيع الأهل والعشيرة والوطن. طلبه للقاء به في الثكنة العسكرية البريطانية في بغداد فرفض، وحينما ألحّ في الطلب ذهب إليه برفقة أولاده وبعض أفراد القبيلة، وعندما عرض عليه أن يبيع الوطن ويكون خادماً لمشروع الاحتلال، غابت كل الاعتبارات الذاتية الخاصة بالرجل، وحضرت كل القيم والمبادئ السماوية والأرضية في عقله وضميره، وما هي إلا لحظات حتى خرّ الحاكم الإنكليزي صريعاً بنيران الابناء الذين فجروا رأسه بأسلحتهم، ثم أجهز الجد عليه بسيفه كي لا يفوته شرف المنازلة. كان هذا الإرث مضافاً اليه العلم الشرعي والوجاهة الاجتماعية، كلها عوامل محفزة للشيخ حارث الضاري لأن يسير على النهج نفسه الذي سار عليه جده وأبوه وأقرباؤه، خاصة أن الأقدار أعادت الظروف نفسها إلى العراق. فالاحتلال الأمريكي قد حصل، والحاكم الامريكي بات هو سيد الموقف في البلد.
إنها الصورة نفسها التي واجهها الجد والأب، يواجهها الحفيد حارث بظروف وزمان مختلفين. ولو نظرنا إلى كل صفة من صفات الرجل نجد أنها تُرتب عليه موقفا، وتطلب منه تضحية. إرث العائلة كي يكون مُشرِفاً يجب أن يكون في حالة استمرارية فاعلة، وإلا تحول إلى قصص يعتاش عليها الكسالى ومن لا همة لهم. والوجاهة الاجتماعية، نعني المشيخة، تصبح مجرد واقع حال قدِم من الماضي بالتوارث. أما العلم الشرعي فهو الطامة الكبرى في عصرنا الحالي لمن حمل رايته. فلدى البعض ممن حملوا لقبه، هو مجرد ترديد لعبارات تفيد الوعظ والإرشاد، الذي يحث على النأي بالنفس عن خوض المصاعب، حتى إن ضاعت الحقوق، وأهدرت الكرامات، وانتُهكت الأعراض، وسُرقت الاوطان. بينما لدى البعض الاخر هو، مقاومة مدفوعة بقوة سماوية تحارب كل الباطل قولا وعملا.
كان الشيخ الجليل هو من أتباع الفهم الديني بهذا المعنى، وليس بالمعنى الذي رأيناه من كثير من المعممين، لذلك لم يلق على نفسه السؤال المعتاد، ما العمل؟ ولم يهادن ويدعو إلى التأمل بما سوف تأتي به الأيام. كان إرث العائلة والوجاهة الاجتماعية والعلم الشرعي، كلها عوامل ضغط هائل عليه، ومسؤولية سماوية وتاريخية، تضع في رقبته دماء كل العراقيين ومصيرهم ومستقبلهم، لذلك قرر أن يكون في مُقدمة الركب المقاوم في ساحات الوغى، وليس في مُقدمة ركب من لبسوا عمامة الدين واختاروا ساحة الافتاء للغازي وأذناب المحتل في أروقة المنطقة الخضراء. كان يعرف جيدا أن الجميع يروم العيش على قمم العز والسمعة والجاه، لكنهم لا يعرفون أن السعادة الحقة هي في الوصول إليها، وبالطريقة التي يقطعون بها مسافة الوصول. كان يسمع البعض يتضرّعون إلى المحتل والحاكم من على المنابر أن يمُنّ عليهم برضاه، بينما كان يتضرّع إلى الله أن يجعله حارساً أمينا على دماء العراقيين والعرب، لذلك لم يترك منبراً عربياً أو عالمياً إلا وكان صوته يصدح بالحق مبشراً بالنصر الحتمي للعراقيين، ونذيراً لكل من اختار طريق الموالاة والسكوت على الباطل. لم يسع يوماً إلى تمييع موقفه كي يكسب رضا أحد، ولم يكن حريصاً على الولوج في دهاليز السياسة كي يكسب شهرة إعلامية وأضواء تلقى عليه لهدف سلطوي مستقبلي، لذلك كان خطاب هيئة علماء المسلمين التي تزعمها، خطابا مبدئيا قائما على أساس ضرورة إنهاء الاحتلال أولا، وإبعاد كل من نصّبه المحتل في السلطة، تمهيداً لتسليم الأمر بيد الشعب العراقي، فهو الوحيد الذي له الحق في اختيار من يريد.
إن الرجال أصحاب الهمم العالية هم الذين يخلقون ساحات الشرف، حين تشتعل عقولهم وقلوبهم بهموم الناس والوطن، وهم الذين يقررون وسائل المنازلة الكبرى فيها، كما أنهم هم الوحيدون الذين يتركون بصماتهم عليها، سواء بقوا على قيد الحياة أم رحلوا، لذلك اختار الشيخ الجليل طريق المقاومة المسلحة وسيلة لا رجعة عنها، بعد أن استحضر كل صور العمامة المقاتلة في تاريخنا العربي والإسلامي. لقد أيقن بعلمه الغزير أن منطقتنا العربية تشكل فيها الرموز المعنوية مؤثرا حاسما في تاريخها، وإذا ما سقطت هذه الرموز يسقط معها كل شيء حتى الأوطان، وفي زمن السقوط الكبير للعديد من الرموز الدينية والعشائرية والسياسية في العراق والوطن العربي، أبى الرجل إلا أن يكون مشعلا مادياً ومعنوياً يبدد الخيبة التي انتابتنا، بعد أن رأينا الكثيرين يتدثرون في أحضان المحتل وأعوانه، بينما كانوا من أعلام الدين والوطن.
كانت كلمة لا سيفا بيده قاتل بها الطائفية والفيدرالية ومحاولات إضفاء الشرعية على ما حصل بعد عام 2003، ومشاريع التقسيم التي ذروا عليها حلاوة الحلم، ولم يرفع كلمة ولا شعاراً مرحلياً لكسب المزيد من التـــــنازلات من الطرف المقابل، لانه لم يكن مهموماً بمصالح شخصية مرحلية. يقيناً سيدي الشيخ الجليل، أن كل صاحب ضمير يكاد يسمع اليوم بكاء العراق، بشراً وشجراً وماء وهواء في لحظة فراقك. إنه ليس مجرد رحيل عن مسرح البطولة الذي صنعته أنت، بل هو خسارة كبرى من النوع الذي لا يمكن لأحد أن يألفه ويتعود عليه.
* باحث سياسي عراقي