وفاة غراس تحيي الجدل حول أديب يستفز السياسيين بالتاريخ
الكاتب الألماني الشهير يرحل عن مسيرة إبداعية حافلة ويترك ايضا جدلا سياسيا في بلاده وفي إسرائيل والعالم.
ميدل ايست أونلاين
السخرية المرة لم تغب عن غراس
برلين - اتهم اتحاد الكتاب العبريين في إسرائيل الاثنين الكاتب الألماني الراحل غونتر غراس بأنه شن "حملة صليبية عنيفة" ضد الدولة العبرية، في حين أشاد سياسيون ومثقفون في ألمانيا بالروائي الكبير الحاصل على نوبل للآداب.
وقالت مؤسسة تحمل اسم غونتر غراس الاثنين إن الروائي الألماني الحائز على جائزة نوبل في الآداب توفي عن 87 عاما.
وجاء في بيان صادر عن رئيس الاتحاد هيرتسل شاكاك إن غراس "قام بحملة سياسة لنزع الشرعية" عن إسرائيل، مضيفا "لم يبد غراس حتى وفاته ندما إزاء تصريحاته المعادية لإسرائيل" وأنه "قام قبل ثلاثة أعوام بحملة صليبية حديثة ضد الدولة العبرية".
وأضاف رئيس اتحاد الكتاب العبريين "كان على غراس أن يدعو بصفته أحد الألمان الداعين للأخلاق الفاضلة في ظل النزاع النووي مع إيران لتجنب ارتكاب محرقة جديدة ضد الشعب اليهودي".
كما رأى شاكاك أنه لا يغفر للأديب الألماني أنه كان نفسه أثناء الحقبة النازية في ألمانيا عضوا في وحدة "اس اس" النازية التي كانت مكلفة بضمان أمن الزعيم النازي أدولف هتلر وحذر من نسيان أن غراس "هاجم البلد الوحيد الذي أسس كوطن للشعب اليهودي".
وقال شاكاكا إنه كان لديه "أمل خافت" حتى العام الماضي بأن يبدي غراس ندمه على مواقفه إزاء إسرائيل "ولو فعل ذلك لاستطاع إزالة آثار الصليب المعقوف من على ملابسه بعض الشيء، وللأسف واصل الحرب الصليبية على إسرائيل حتى وفاته وهذا أمر لا يغتفر".
وولد غراس في ميناء دانزيغ -الذي تحول الآن إلى غدانسك في بولندا- المطل على بحر البلطيق عام 1927 ودارت كثير من رواياته عن المدينة.
وغراس مؤلف رواية "طبل الصفيح" وهو بالنسبة لكثيرين صوت جيل ألماني خرج من حقبة الحرب العالمية الثانية وتحمل على كاهله ذنب ما ارتكبه النازي من فظائع.
بغليونه وشواربه الكثة، الضمير الاخلاقي لليسار الألماني
ألمانيا تودع غراس تواردت ردود فعل حزينة في ألمانيا والعالم حيال وفاة الأديب الشهير.
وأعرب رئيس أكاديمية برلين للفنون كلاوس شتيك عن صدمته إزاء وفاة غراس، قائلا "بوفاة غونتر غراس فقد العالم الأدبي مؤلفا فصيحا وفقدت جمهوريتنا مواطنا باسلا".
ومن جانبه أعرب برند زاكسه عمدة مدينة لوبيك، التي ينحدر منها غراس، عن صدمته العميقة حيال وفاة الأديب الألماني البارز.
ومن جانبه أعرب يورغ-فيليب تومسه، مدير متحف "غونتر غراس" الأدبي بمدينة لوبيك، عن صدمته العميقة حيال وفاة غراس، وقال "إننا ممتنون للكثير من المعايشات التي سمح لنا بمشاركتها معه".
وعلى الصعيد العالمي أعرب الروائي المجري العالمي الحائز على جائزة نوبل للأدب، ايمري كيرتيش، عن حزنه لوفاة صديقه ورفيقه غراس.
ونقلت وكالة الأنباء الألمانية تصريحات كيرتيش (85 عاما) عن زوجته ماجدا قوله "لم نكن نعمل في نفس الموضوع، ولكننا كنا أصدقاء وكنا نقدر بعضنا البعض".
من جانبها أشادت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بقيمة الأديب الألماني.
وأوضح المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفان زايبرت في برلين أن ميركل أعربت عن تعاطفها مع أرملة غراس في خطاب التعازي الذي أرسلته إليها.
وكتبت ميركل في خطابها "أسهم غراس في صياغة تاريخ ما بعد الحرب في ألمانيا بالتزامه الفني والمجتمعي والسياسي على نحو لم يفعله سوى قليلين".
وتابعت المستشارة الألمانية "بوفاة غونتر غراس فقدت جمهورية ألمانيا الاتحادية فنانا أودعه ببالغ الاحترام".
من جانبه، أشاد رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر بالأديب الألماني الراحل معلقا على خبر وفاته بالقول "استطاع أن يكون شديد التركيز في صلب الموضوع وكان يريد دائما وضع إصبعه في جروح مؤلمة".
كما رأى يونكر، رئيس وزراء لوكسمبورغ السابق، أن الأديب الألماني "كان يسخر قلمه دائما ككاتب ذي قناعة بأوروبا لصالح الضعفاء والخاسرين" مضيفا "كان غونتر غراس طوال حياته طرفا مهما ومشاكسا فيما يتعلق بأي نقاش عن ألمانيا وذلك خلال جهوده السياسية وخلال النقاشات المجتمعية".
بهجة سوداء شكل غونتر غراس ضمير اليسار الالماني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حاملا بشدة على اخفاقات طبقتها السياسية في مواجهة النازية التي اقر متأخرا بخدمته كجندي في صفوفها خلال شبابه.
وبصورته كمتمرد مدخن للغليون وشنبه العريض ونظاراته الكبيرة الموضوعة على انفه، طبع غونتر غراس رفيق درب الحزب الاشتراكي الديموقراطي، الساحة الادبية والفكرية لألمانيا الغربية.
ويترك مؤلف "الطبل الصفيح" (1959) من خلال رواياته التي تتسم بـ"بهجة سوداء" على حد تعبير الاكاديمية السويدية، ارثا انسانيا نقديا للعقائد وحريصا على وعي المواطن العادي.
وقد وصف غراس الذي كان ايضا شاعرا وكاتبا دراميا ورساما، اسلوبه الادبي. وقال انه بعد الحرب العالمية الثانية "ترافقت طبيعتي المرحة مع روحية تشكيك لا يمكن تجاوزها. تمخض ذلك عن مقاومة وفي كثير من الاحيان ايضا ميل للهجوم على اي عقيدة تدعي تحديد معايير مطلقة".
الا ان سمعة غراس تلطخت سنة 2006 بسبب اعترافاته المتأخرة في سيرته الذاتية التي حملت عنوان "قبو البصل"، بشأن انضوائه سنة 1944 في صفوف القوات الخاصة النازية. وقد عاب عليه كثيرون حينها صمته المطبق لسنوات طويلة، خصوصا لكونه كاتبا المانيا متنورا ندد بشدة بالتنازلات التي قدمها جيله، ما اجج مشاعر حقد كبيرة ضده.
وشرح غراتس أن التحاقه في سن السابعة عشرة بالشبيبة النازية جاء لكونه في تلك الفترة شابا متحدرا من اوساط متواضعة كان يريد محاربة الشيوعية.
وكان يرغب في الانضمام الى وحدة الغواصين لكن بسبب عدم اختياره لهذه المهمة وجد نفسه لفترة قصيرا عنصرا في وحدات القوات الخاصة النازية التي شهد تفكيكها. وقد علم بحصول المحرقة عندما كان في الاسر.
من ابرز دعاة المراجعة الواسعة للتاريخ وبعد سقوط نظام هتلر، عاش غراس هائما لسنوات في المانيا المدمرة جراء الحرب العالمية الثانية ثم شهد على معجزة اعادة الاعمار في جمهورية فدرالية رأسمالية معادية للشيوعية.
وبعد دراسته النحت، انتقل للعيش في باريس في خمسينات القرن الماضي حيث قرر اطلاق مسيرته ككاتب. والتزم الكتابة الى جانب الروائيين المعادين للفاشية في "المجموعة 47" (مجموعة كتاب باللغة الالمانية نشطوا في العقدين اللذين اعقبا انتهاء الحرب العالمية الثانية) كذلك مع المستشار الالماني السابق الاشتراكي الديموقراطي فيلي برانت.
وفي المانيا التي استعادت ازدهارها في الستينات وشهدت الاحتجاجات الطالبية ثم مرحلة هجمات جماعة الجيش الاحمر اليسارية، سعى غونتر غراس لتقديم صورة كاتب رافض للنظام العام لكن ضمن منحى اصلاحي.
وفي سنة 1993، قام الكاتب والمفكر الالماني بخروج مدو من الحزب الاشتراكي الديموقراطي بعد اكثر من عقد على انضمامه اليه سنة 1982 على خلفية رفضه لمواقف الحزب التي اعتبرها محافظة للغاية. الا ان هذا الوضع لم يحل دون دعمه سنة 1988 للمستشار السابق غيرهارد شرودر المنتمي الى الحزب الاشتراكي الديموقراطي.
وعندما نشر سنة 1995 رواية "القصة كاملة" التي انتقد فيها توحيد المانيا، حملت صحيفة بيلد الواسعة الانتشار على غراتس متهمة اياه بأنه "لا يحب بلده".
لكن بحسب أحد اشهر النقاد الألمان، فإنه لولا المداخلات المتواصلة لغونتز غراس في النقاشات العامة "لربما كانت المانيا مختلفة عما هي اليوم"، رغم انه كان "يستفزنا احيانا".
ووصفت الاكاديمية السويدية في ستوكهولم خلال تسليم غونتر غراس جائزة نوبل للاداب، نتاجه الروائي الغزير معتبرة انه يحمل "مراجعة واسعة للتاريخ مع التذكير بما تم انكاره ونسيانه: الضحايا والخاسرون والاكاذيب التي يريد الناس نسيانها لأنهم صدقوها يوما".