العراق: مواطنون يبحثون عن كفيل وسلطة تبحث عمّن غنى لصدام
د. مثنى عبدالله
April 27, 2015
■ نزوحات بشرية بمستوى الطوفان.. محافظات كاملة تُفرغ أحشائها من السكان وتلفظهم إلى لا مكان..
جسر بزيبز يصبح أيقونة الاخبار، حيث يقف الشيوخ والنساء والاطفال في وسطه قادمين من الأنبار، وتقف السلطة بكل أجهزتها القمعية على الطرف الآخر منه، تُحدّق في الوجوه وتسأل عن كفيل كي يعبر هؤلاء إلى بغداد وغيرها من المحافظات، هربا من الحرب الدائرة في كل مكان.
كلُ كفيل مطلوب منه أن يُثبت أن الـ»دي إن أي» لمكفوله خال من جينات الارهاب، كي يسمح له بدخول أحياء بغداد أو بابل أو كربلاء، ثم يذهب مباشرة إلى أقرب مركز أمني، كي يدلي لهم بشهادته عن تاريخه العائلي ولأي عشيرة ينتسب والى أي قبيلة يعود، ومن هم أولاده وأحفاده وأجداده وأقرباؤه، حتى الظهر السادس عشر. نعم كلهم يحملون وثائق عراقيتهم وبطاقات الحصة التموينية التي لم تعد موجودة، وبطاقات السكن التي تثبت في أي مدينة وحي وزقاق ودار كانوا يسكنون، لكن كل هذا لم يعد كافيا كي يثبت هؤلاء عراقيتهم، أو حتى إنسانيتهم، في بلد باتت فيه الهوية الطائفية هي المطلوبة.. إثبت أنك من الطائفة الكبرى أو الطائفة الاخرى أو من الطوائف الصغرى، عندها ستجد الباب المخصص لك كي تدخل منه إلى وطنك، بعد أن تُحاط علما بالمساحة المخصصة لك المسوح بها بالتجوال.. أتعلمون بأن وطني باتت فيه بوابات يحتشد الناس حولها كي يدخلوا من محافظة إلى أخرى، وتحيط مدنه خنادق وأسوار وحواجز كونكريتية؟ وأن شماله يطلب من جنوبه ووسطه وغربه الحصول على إقامة؟ وإذا كنتم قد سمعتم في الاخبار أن قوارب اللاجئين قد تكسّرت على سواحل المتوسط، وهبّت اوروبا لانقاذ من هم ليسوا أوروبيين، فإن في وطني احتشد المسؤولون، سنة وشيعة، عند جسر بزيبز، يُحدّقون في وجوه اللاجئين الابرياء المُتهمين حتى تثبت براءتهم. كانوا يرتدون بدلاتهم الانيقة وربطات عنق ويضعون عطورا باريسية أصلية، ومن خلفهم تمتد عشرات الاعناق لرجال أمنهم وحراسهم الشخصيين وحواشيهم ومحاسيبهم.. جميعهم يزورون الجسر ويعطون التوجيهات الكاذبة، والفرح يملأ قلوبهم، لان الجسر بات مزادا سياسيا لهم، بينما ترك الاهل خلفهم حقولهم ومواشيهم ودورهم وجاءوا فقط بملابسهم.. يُلقي رئيس البرلمان وممثل الشعب بأناقته المعهودة وسط ركام الفشل كلمة حماسية، يرفع فيها الشعور بالخوف لدى شركائه من سياسيي الصدفة، من أن بغداد باتت على بعد خطوات من المارد الذي دخل الانبار، ويدفع بكلمات النخوة والشجاعة والاقدام أهل الانبار كي يقاتلوا ولا يسمحوا للمارد أن يجتاز إلى بغداد، لكنه يقف عاجزا عن تقديم أي شيء للجموع المنداحة من على جسر بزيبز، على الرغم من انه ممثلهم في التشريع والمحاسبة والرقابة. قبل شهور وقف في قاعدة عين الاسد الجوية خطيبا بين شيوخ الانبار من الذين تشيّخوا بقرار من الحكومة أو من الامريكان.. كان يوزع بكرم حاتمي السلاح عليهم قائلا هذا هو السلاح بين أيديكم وليس لكم والله الا النصر أو الشهادة، لكن تبين في ما بعد انه كان يوزع كلاما وليس سلاحا، وأن العشائر حتى اليوم تصرخ انهم يُذبحون، لكن الدولة لا تسمح بإعطائهم سلاحا يدافعون به عن انفسهم، لماذا؟ لان براءتهم لم تثبت حتى اللحظة…أي مصداقية يمكن الحصول عليها في هذا الكم الهائل من الكذب والنفاق، فالسياسي الاسلامي والعلماني والليبرالي والراديكالي والمعتدل، وذيول الامريكان وأذرع دول الجوار من السنة والشيعة، كلهم يرقصون على جثثنا في سلة واحدة، بعد أن تخلصوا من آخر قطرة غيرة كانوا يعانون من مسؤوليتها.. دعوا اللاجئين يسكنون في الجوامع والمساجد، هكذا قال البعض من المسؤولين، وسرت مقولة بأن دعوهم يسكنون في سجن ابوغريب.
تبرأ شيعة السلطة من المقترح، بينما أنزله الساسة السُنة في البورصة السياسية كي يتكسّبوا به.. بعضهم صرخ رافضا المقترح بغيرة وطنية زائفة لا تدانيها غيرة، بينما انبرى سُنة المالكي لتكذيب المقترح كي يحصلوا على تزكية الطرف القوي في السلطة، وبركاته ورضاه عنهم. يذهب الثلاثة الكبار من سُنة السلطة إلى عمان، كي يطلبوا من الملك تسيير قوافل إغاثة إلى أهل الانبار، بينما السلطة التي يتشاركون فيها في بغداد، لا يستطيعون أن يحصلوا منها على قطعة خبز يسدون به رمق الناس المهاجرين في كل مكان. إنهم لا يريدون أن يقولوا لاهلهم بأنهم مجرد دمى تملأ المسرح السياسي ضجيجا وحسب. وسط كل هذه المأساة تنشغل الاوساط الحكومية والنخبوية والثقافية بمن غنّى للرئيس الاسبق.. يتساءل كاتب فاغرا فاه، وعيناه مفتوحتان إلى حد الجُحوظ، كيف تسلل من غنى للنظام السابق إلى السلطة وبات قريبا من رئيس الوزراء، ناطقا إعلاميا باسمه؟ يا للهول إنه أمر جلل، لكنه لايتساءل عن جحافل اللصوص والقتلة، الذين وصلوا إلى أعلى مراكز المسؤولية في الدولة العراقية، ولاعن مئات الساسة الذين تعاملوا مع كل المخابرات الدولية والاقليمية، عندما كانوا منضوين في المعارضة العراقية…لا لا تُخوّنوا الناس. هكذا يقولون عندما نُحاججهم في ذلك، بينما وقف مُعارض سابق لم يحصل على سهم كبير من الكعكة العراقية، وسط أحد شوارع لندن قبل ثلاث سنوات، حيث كنت أقيم، وجادلته في خيانته، فصرخ بأعلى صوته أمام المارة، نعم أنا خائن وأستحق الاعدام الف مرة، لانني تعاملت مع المخابرات الامريكية والبريطانية ضد بلدي. فهل الغناء للنظام السابق أغلظ جُرما من جريمة الخيانة؟ جيل كامل من العراقيين الذين كانوا طلاب مدارس انتظموا في منظمة الطلائع والشباب، وكانوا إضافة إلى نشاطات رياضية وعلمية وثقافية يغنون للنظام آنذاك في فعالياتهم الفنية.
وأجيال وأجيال كانت تسمع ذلك الغناء في الشارع والبيت والمدرسة والمعمل والحقل والمؤسسات الحكومية والاهلية، فهل يُعقل أن يتم إقصاء كل هؤلاء الناس؟ أم هل يتطور الامر وتتغول السلطة ومثقفوها، فيقودون حملة شعواء لثقب غشاء أذن كل من سمع تلك الاغاني والاهازيج والاشعار؟ هل حقا يمكن أن يبنى وطن بهذه الطريقة البائسة، التي تبحث في آذان والسنة مواطنيها عن مسموعات ومقولات ماضية، بينما يتم غض النظر عمّن سرق مليارات الدولارات، أو عن قائد عام في عهده هرب الجيش عن بكرة أبيه أمام بضع عشرات من المسلحين، ثم خرجت محافظات كاملة عن سيطرة الدولة وباتت خارج العراق، ومع كل ذلك تم تكريمه بمنصب نائب الرئيس، بعد أن كان رئيس وزراء وقائدا عاما للقوات المسلحة؟ قد يسأل البعض عن الحل، ونحن هنا نقول بأن الشعوب هي من تقرر مصيرها.
لا تسألوا عن النُخب ولا عن العمائم ولا عن شيوخ العشائر كي يقودوا التغيير، فقد ماتت الضمائر وسقطت رمزية العمامة والعقال، وتدحرجت تحت أقدام السلطة والمال، وليس لنا سوى خروج كل العراقيين إلى الشوارع في اعتصام مفتوح، لا مساومة فيه على أي شيء. هذا هو طريق التغيير الوحيد إن كنا حقا نريد العيش تحت خيمة الوطنية.
٭ باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله