يا سفاحي العالم اتحدوا… نعم إنها الفلوجة
د. مثنى عبدالله
■ سماؤها مزدحمة بالطائرات الأمريكية المسيرة وغير المسيرة، وأرضها تنور نار يُوقد بأطنان القذائف، بمختلف الأحجـــام والقياسات التدميرية.
أسوارها آلاف الأفواه المتعطشة للدماء، أيا كانت الضحية طفلا أم شيخا، رجلا أو امرأة، فالمطلوب هم أهل الفلوجة جميعا، كما قالها أحد زعماء المليشيات، وعلى أطرافها يجلس الخبراء والمستشارون، أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين وإيرانيين وعربا أردنيين ومصريين، كل يضع أفضل ما عنده من خبرة الموت والتدمير، بينما وحدهم أهل الفلوجة هم الضحية، التي تنتظر المصير، وهم وحدهم من يدفعون الثمن، في حين يرفع الباقون شارة النصر على الجثث اليوم وغدا، حينها تأتي استراحة المقاتل, فتُقلّب الأيدي المرتعشة من فوران الحقد ركام بيوت أهل الفلوجة وبقايا أثاثهم وحيطانهم وسقوفهم الهاوية، علّهم يجدوا دمية ابنتي أو دراجة ولدي، سالمة. هل هي ساحة معركة أم مستنقع لتنفيس الأحقاد والعُقد الطائفية؟ هل النصر فيها يستحق التسجيل والتبجيل؟ وهل الفلوجة عدو أم صديق؟ لم تعد كل هذه الاسئلة ذات جدوى بعد اليوم بالنسبة للكثيرين، فقد اختلطت الأجندات وتزاحمت المصالح، حتى بات الهدف هو من يشرب من دماء أهل الفلوجة أولا، فالامريكان لن يستطيعوا نسيان الهزيمة التي لحقت بهم فيها، والإيرانيون يعرفون جيدا أنها شوكة في عيونهم، وأن الكثير من رجالها هم الذين أجبروا الخميني على تجرع كأس السم في حرب الثمانينيات، في حين أن للمليشيات وأحزاب السلطة وأركان العملية السياسية ثأرا كبيرا، لانهم يعلمون جيدا أن هذه المدينة كشفت عوراتهم وخياناتهم وولائهم للغزاة، حين قاومت ولاة أمرهم الامريكيين والايرانيين وألحقت الهزيمة بهم.
أما أهل الفلوجة فلم يعد يعنيهم الصراخ بطلب النجدة من شقيق أو أخ أو صديق أو قريب، كما لم يعد للبيانات والتصريحات الخجولة والمُغرضة أي معنى بالنسبة لهم، فقد بات صمودهم تحت القصف هو الدليل الملموس الوحيد على وجودهم. كما أن المعركتين اللتين خاضهما الجيش الامريكي ضد اهلها عام 2004، جعلتهم لا يتعبون من الانتظار ولا يهابون الجوع والعطش والموت البطيء، لأنهم يعرفون جيدا إذا تحالف السفاحون ضاع الحق وانتصر الباطل.
هم يعرفون النهايات التي تتربص بهم وتنتظرهم منذ عام 2003 وحتى اليوم، لانهم كانوا كل العراق في سوح المقاومة الشريفة، ولا بد أن يدفعوا الثمن. وها هم يدفعونه مرة أخرى في ثالث أكبر معركة مرت على المدينة منذ الغزو، لكن من وقف عاجزا ومنتظرا هم أعداؤهم وليسوا هم.
يحصر علم السياسة حق احتكار السلاح بيد الدولة، ويعطيها الحق في استخدامه بشكل مشروع لتحقيق السيادة، وكي تقوم بواجب حماية مواطنيها وتحقق العدالة بينهم، لكن أهالي الفلوجة والمناطق الأخرى التي خرجت عن سيطرة الدولة لم يكونوا هم السبب في زوال السيادة، بل السلطات العراقية هي التي كانت السبب الرئيسي في كل الذي حصل، وهو نتيجة مباشرة لعدم أهلية كل القائمين على الحكم، بما في ذلك الهيئات والمؤسسات العسكرية والشرطية والأمنية. فلقد سقطت الموصل ثاني أكبر محافظات البلاد بيد ثمانمئة عنصر من تنظيم الدولة، في حين كان في المدينة أكثر من سبعين ألفا من القوات العسكرية والأمنية، كما يشترك في القتال حول الفلوجة اليوم ما يقارب الخمسين ألف مقاتل، بينما تقول السلطات إن عدد عناصر التنظيم داخلها لا يتجاوز عدد من أسقطوا الموصل، وبهذه الأرقام التي أعلنتها السلطات العراقية، يمكننا قياس حالة الفشل على المستوى السياسي والعسكري، ما يجعل المسؤولية ملقاة أولا وأخيرا على عاتق السلطات الحاكمة، لكن الذي نراه ونسمعه هو عكس ذلك تماما، فلقد انطلقت الأبواق الطائفية منذ زمن بعيد في عملية تثقيف واسعة، فحواها أن أهالي هذه المناطق هم الذين أتوا بعناصر تنظيم الدولة، وهم من قدموا لهم الحضانة والرعاية والمساعدة، بل أن عملية كبرى لعكس الوعي الشعبي مورست على أوسع نطاق لزرع الفتنة بين المجتمع العراقي، حيث جرى إلقاء مسؤولية كل من قُتل من أفراد الجيش والشرطة في تلك المناطق على عاتق أهلها، وباتوا اليوم مطالبين بالقصاص وفق المادة 4 إرهاب، وكذلك وفق القانون العشائري الذي يتطلب دفع أموال لذوي الضحايا الذين قتلهم تنظيم الدولة أثناء اجتياحه تلك المدن، بينما لم نسمع حتى اليوم تجريم أي مسؤول عسكري أو مدني كانوا هم السبب الرئيسي في تلك الأحداث.
إن العقاب الجماعي للسكان وشطب المدن من خريطة الوطن، وعمليات التغيير الديموغرافي، وسلب حقوق وممتلكات المواطنين ومنحها هبات لمواطنين آخرين، لن تجلب غير الخراب والتدمير وتضاعف الحقد، إلى الحد الذي يعدم كل فرصة ممكنة للعيش المشترك.
كما أن إطلاق أوصاف مسيئة واتهامات مفبركة ضد أهل المناطق التي فقدت السلطة سيطرتها عليها، يؤدي إلى مضاعفة الإحساس بفقدان الهوية الوطنية لدى المواطنين ويمنحهم شعورا بأنهم باتوا غرباء في وطنهم، وينعكس هذا الموقف سلبيا على السلطات الحالية والمستقبلية أيضا، لأن فقدان الشعور الوطني يمهد لتخندقات طائفية ودينية وإثنية، ويجعلها الأساس في مواجهة الطرف الآخر، وبالتالي يصبح من غير المجدي جهد أي حكم مقبل حتى لو كان حكما رشيدا. فلقد شهد الكثير من العراقيين، خاصة سكان العاصمة بغداد كيف تعاملت السلطات مع أهالي الفلوجة، حتى قبل سيطرة تنظيم الدولة عليها. كانت السيطرات العسكرية والأمنية دليلها الوحيد على إرهاب أهل الفلوجة هي هوياتهم الشخصية حين يبرزونها في السيطرة، كما وصف الكثير من أهالي محافظة نينوى تصرفات القطعات العسكرية والأمنية والشرطية في المدينة مع المواطنين، بمستوى تصرفات قوات الاحتلال. هذا النوع من السلوك الذي تمارسه أجهزة أي دولة في العالم، يكون مبررا لتغاضي المواطنين عن كل ما يهدد أمن الدولة والمجتمع في أضعف الأيمان، إن لم يكن مبررا لذهاب الكثير من المضطهدين إلى حمل السلاح ومقاتلة السلطات أو الانضمام إلى جماعات مسلحة ترفع شعار أخذ ثأرهم.
وفي هذا الجانب أيضا يأتي موضوع عمليات حصار المدن، وتطبيق سياسية الأرض المحروقة عليها في المعارك، سببا رئيسيا في عدم إعطاء الولاء للسلطات، لأن المواطن في كل الحالات يريد من الدولة أن تنقذه، لا أن تهدم بيته على رأسه وتُهجّره من مدينته وتسلب مزارعه ومواشيه، كي تقول إنها انتصرت.
لقد برز إلى السطح من خلال وسائل الإعلام والتحقيقات، أن غالبية من قاموا بتفجيرات باريس وبروكسل كانوا من فئة اجتماعية معينة، ومن مناطق تسمى الضواحي، لكن السلطات لم تتهم جميع تلك الفئة الاجتماعية، كما أنها لم تقصف الضواحي لأنها كانت مرتعا لأولئك الذين قاموا بالتفجيرات، لانها تعلم أن الحل العسكري والطرائق الأمنية هي وسائل استثنائية في ظرف ولوقت محدود، وليست علاجا لقضية سياسية واجتماعية واقتصادية، وأن ما حدث في العراق كان سببه الرئيس عوامل سياسية وغياب العدالة الاجتماعية.
٭ باحث سياسي عراقي