المسيحيون العراقيون.. فاعلون في بناء الحضارة محاصرون في زمن الغلو
تاريخ العراق بكل ما احتواه من تقلبات ومتعرجات، بني بإسهام كل الأديان والمكونات والطوائف، وشيده اليهود والمسيحيون والمسلمون معا، بل تشاركوا كثيرا في بناء كل المراحل. الملاحظ أن كل ازدهار حضاري وتاريخي يكون منطلقا ومعتمدا على تعايش هادئ بين المكونات، وكل نكوص وارتداد يكون مصحوبا بالتوتر الديني أو الطائفي. مواطنو العراق المسيحيون بنوا العراق بوصفهم عراقيين، ويحرمون اليوم من مواطنتهم ووطنهم.
العرب د. محمد الجويلي:لم يكن أحد يعتقد أن المسيحيين العراقيين الأكثر تشاؤما الذين تربطهم ببلاد ما بين النهرين وشائج عميقة وتجذّروا في تربتها منذ حوالي الألفي سنة والذين استقبلوا المسلمين في القرن السابع ميلاديّا بودّ باعتبارهم إخوة في أهل الكتاب لمناصرتهم ضدّ الدولتين الرومانية والفارسيّة اللتين تداولتا على اضطهادهم وابتزازهم طيلة قرون، سيعيشون مأساة حقيقية كالتي يعيشونها خاصة منذ غزو الولايات المتحدة للعراق سنة 2003 إلى اليوم.
عندما دخلت الجيوش الإسلامية بلاد ما بين النهرين كان يوجد بها حوالي سبعة ملايين عراقي سرياني لغة وثقافة وعقيدة دينيّة بعضهم عرب كانوا ينضوون تحت إمارة المناذرة في الحيرة، والغالبية العظمى منهم ينتمون إلى الكنيسة النسطورية، والبقيّة الباقية إلى الكنيسة اليعقوبية.
لقد وعى المسلمون في العراق وهم يبنون دولتهم وإمبراطوريتهم في عهد العباسيين الذين كان خلفاؤهم كثيرا ما يتخذون أطبّاء شخصيين لهم ولعائلاتهم ولحاشيتهم من السريان، بالحاجة الماسة للاستعانة بالمسيحيين، خاصة منذ صعود المأمون إلى سدّة الحكم في 198 للهجرة وفي لحظة انفتاح وتسامح وتطلّع إلى التقدّم لتنظيم مؤسّسات الدولة وبعث الدواوين والأجهزة الإداريّة، وكذلك لتطوير شتّى المرافق الاقتصادية في الصيرفة والتجارة وتنمية الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية، فبرز علماء منهم مثل حنين بن إسحق وأبوبشر ويوحنا بن جلاد ويحيى بن عدي والكندي وغيرهم، الذين برعوا في التأليف وترجمة المدوّنات الفلسفية والعلميّة في الطبّ والرياضيات والفلك والهندسة من اللغات السريانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية كما ساهموا في تأسيس بيت الحكمة الشهير.
بلغ الأمر ببعض خلفاء بني العباس الذين تفطنوا إلى أهمية دور مسيحيي العراق في بناء الدولة وتطوير المجتمع العربي الإسلامي، أن يتيحوا للمسيحيين حرية أكبر في ممارسة عقيدتهم تبعث في نفوسهم الطمأنينة الدائمة. لقد كانت المدن العراقيّة الكبرى تعجّ بالنصارى خاصة بغداد، وكانت الأديرة المسيحية منتشرة في كل أحيائها محاذية للمساجد ومعابد اليهود، ممّا أضفى على الحياة طابعا من التسامح قلّ نظيره في أصقاع العالم الأخرى – ما عدا في بلاد الشام – التي كان أغلبها يرزح تحت التخلّف والهمجيّة والتوحش، وتحرّكه نزعة الكراهيّة ونبذ الآخر المختلف.
غير أنّ هذه الهمجيّة التي طبعت القرون الوسطى خارج العالم العربي الإسلامي خاصة في أوروبا، قد وجدت لها في مفارقة عجيبة تربة للنموّ في بداية القرن الحادي والعشرين في بلاد العرب مشرقا ومغربا، بما في ذلك في بلاد ما بين النهرين؛ مهد الحضارات وحاضنة الحضارة العربيّة الإسلاميّة في عنفوانها ليشهد العالم فصولا من التوحش الغريب عن أرض دجلة والفرات وليدفع المسيحيون العراقيون أسوة بمواطني العراق الآخرين ضريبة غالية بعد الغزو الأميركي لبلدهم.
ينقل الكاتب العراقي عبدالحسين شعبان في كتابه “أغصان الكرمة: المسيحيون العرب” الصادر عن مركز حمورابي للبحوث والدراسات في بغداد، مايو 2015 محنة المسيحيين العرب جميعا في السنوات الأخيرة مع دبيب الفوضى الهدّامة في العالم العربي وتنامي التعصّب والكراهية، خاصة مع ترعرع نابتة العصر من التكفيريين والغوغائيين، ما أصبح يقضّ مضجعهم ويدفع الكثير منهم خاصة في العراق وسوريا إلى ترك منازلهم ووطنهم.
بدأ المسيحيون العراقيون حسب شعبان يفقدون الأمان تدريجيا منذ ستينات القرن الماضي وسبعيناته ويهجرون بلدهم في موجات واسعة، واستفحل الأمر مع الحرب العراقية الإيرانية وسنوات الحصار الدولي، إلّا أنه لم يتخذ مسارا دراماتيكيا ومكثفا إلّا بعد الغزو الأميركي في 2003 حين استهدفت كنائسهم وتعرض البعض منهم إلى الاغتيالات، وقد عدّد المؤلّف العديد من أسماء الضحايا من رجال الكنيسة الذين قتلوا مثل القس عادل عبودي من الكنيسة السريانية في بغداد، والمطران بولص فرج رحو رئيس أساقفة أبرشية الموصل، والقس رغيد عزيز متّى من الكنيسة الكاثوليكية، والقس بولس إسكندر بهتام من كنيسة السريان الأرثوذكس، هذا عدا العديد من الكفاءات العسكرية والطبية والثقافية والأكاديمية من المسيحيين العراقيين الذين استهدفوا في حياتهم في مدن العراق الأخرى في بعقوبة والبصرة وكركوك وغيرها، ما أثار في قلوب المسيحيين الرعب والخوف من مصير قاتم ومظلم.
لقد اختلف المحللون كما يشير شعبان في تحليل ظاهرة استهداف نصارى العراق بالقتل والترويع والاختطاف، حتّى وصل الأمر في فترة الغلوّ الطائفي إلى أن نُودي بمكبّرات الصوت من بعض المساجد في بغداد بضرورة أن يعتنق المسيحيون الإسلام ويتركوا دين أجدادهم أو دفع الجزية بوصفهم كفارا، وذهبت هذه النداءات أبعد من ذلك إلى تحديد مبلغ الجزية الشهري الذي ينبغي على كلّ مسيحي دفعه مقابل حمايته وصونه في ماله وعرضه. يدفعه لمنْ؟ لعصابات إجرامية مجهولة متسترة بالإسلام ومستفيدة من ضعف الدولة وإغراقها في الطائفية المقيتة.
يرجع البعض استهداف النصارى بالإرهاب والترويع إلى ممارسات معزولة وفردية مثلهم في ذلك مثل الطوائف الأخرى من المسلمين أنفسهم الذين تبادل غلاتهم العنف والتقتيل واستبعاد أن يكونا ظاهرة منظمة وممنهجة، في حين يذهب البعض الآخر إلى أنّهما عمليات منظمة تقف وراءها قوى خفية تعمل على تفتيت المجتمع العراقي لتعمّ حرب الكلّ ضد الكـلّ جميع مكوناته الدينية والإثنية.
وهكذا لم يجد عبدالحسين شعبان العراقي المسلم بدّا غير أن يطلق بواسطة كتابه صيحة فزع لإنقاذ المسيحيين العراقيين من التيه والضياع واستنهاض همم العرب المسلمين أن يهبّوا دفاعا عن إخوتهم في الكتاب والوطن.
أغصان الكرمة تذبل وتيبس ليس في العراق فقط بل في المشرق العربي برمّته، فهل ثمّة من يسقيها من الضمائر الحرّة حتّى يعود إليها اخضرارها وتينع أوراقها لترفرف على العالم العربي: ثقافة وفنّا وفكرا كما رفرفت عليه طيلة قرون.