بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بعض ما في الذاكرة عن عبد الناصر والشهيد صدام
شبكة البصرة
نبيل أبو جعفر
جوانب عديدة من حياة القادة والحكام لا نعرفها إلا بعد رحيلهم. منها ما يُدين أصحابها ويُسجّل عليهم وهُمْ كَثْرَة، ومنها ما يعكس المعدن الأصيل لكل منهم وصدقية الإنسان المناضل حقا فيه وهُم قلّة نادرة.
في هذا اليوم الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر ذكرى رحيل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لا يغيب عن ذاكرتي بعض ما سمعته عن تواضعه وصدقه الفطري. وقد سبق أن كتبت عن بعضها ولاسيما ما سمعته على لسان الرئيس الشهيد صدام حسين بكل المحبّة والتأثر، وسآتي على ذكره في هذه المناسبة التي يتربّع فيها السيسي على عرش تغريب وتخريب هذا البلد العربي الأصيل..
لم يخطر ببالي يوما ولا ببال أحد ان يكون الرئيس عبد الناصر، بكل ثقله الداخلي والعربي والدولي ومسيرته النضالية غير قادر في كثير من الأحيان على نقل ضابط من مكان لآخر، إذا ما تعارض هذا النقل مع مصالح التكتل العسكري والمخابراتي الذي كان يتحكم في البلاد والعباد بقدرة خفيّة، مدعوماً من تجمع الضباط الموالين للمشير عبد الحكيم عامر كصلاح نصر وشمس بدران وغيرهما.
لم يكن مثل هذا الوضع مُصدّقاً من قِبل أحد، ولا كان من الممكن التصوّر أن يصل الأمر إلى احتمال أن يكون هاتف عبد الناصر الشخصي مراقباً من قبل الأجهزة في عزّ سطوع نجمه وتعلّق الجماهير به. ولكن، كانت هذه هي الحقيقة المُرّة التي كُشِفَت لعامة الناس في مسلسل "العندليب" الذي عرض في شهر رمضان بعد ربع قرن من رحيله، وتدور أحداثه حول ثورة 23 يوليو ومسيرة الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. وقد جاء هذا الكشف على لسان عبد الناصر نفسه عندما تعرّض عبد الحليم لغضب المشير ومضايقات رجاله. وأُخضِع هاتفه الشخصي للمراقبة، فاغتنم أول فرصة قابل فيها الرئيس ليشكو له من هذا الوضع قائلاً: "هل يُعقل ان يراقّب هاتف ابن الثورة يا سيادة الرئيس"؟! فرّد عليه عبد الناصر بألم: "وما أدراك ان لا يكون هاتفي الشخصي مراقباً أيضا؟".
هذا الوضع الغريب لم يكن معروفاً إلاّ من قبل تكتل كبار القادة العسكريين في مصر، وبعض المقربين جداً من قائد ثورة 23 يوليو. ورغم هذا، سمعنا بأذاننا جانباً منه لأول مرّة قبل أن يكشفه المسلسل التلفزيوني، وتحديدا قبل ثمانية وثلاثين عاما من اليوم.
حصل ذلك في حفل عشاء أقامه الرئيس الشهيد صدام حسين أواخر السبعينات في القصر الجمهوري ببغداد، احتفاءً بإقرار "الميثاق القومي" الذي أبرم وقتها بين العراق وسورية ولم تُكتب له الحياة طويلاً. يومها استعرض الرئيس الشهيد الوضع القومي بمجمله، وتحَدّث بإيجابية عالية وتقدير كبير عن تجربة عبد الناصر وشخصيته، ثم توقف للحظات قليلة وقد بدت علائم التأثّر على وجهه وأكمل قائلاً:
"... ولكنكم قد لا تعلمون ان هذا الزعيم بثقله وحضوره الطاغي لم يكن يقوى في أحيان كثيرة على نقل ضابط من موقع لآخر، ولا إحداث تغيير إداري داخل المؤسسة العسكرية المُهَيْمَن عليها من البعض. كما أن الكثير من الأحداث والمجريات المتعلقة بالجيش والمخابرات تحديداً لم يكن على علم كاملٍ بها، فلقد كان هناك سدُّ منيع يحول بينه وبين معرفة الكثير مما يجري، رغم انه ابن الشعب الكادح، المتمتع بثقته المطلقة".
وعاد الرئيس صدام للصمت، ثم حّدق في جدران صالة الطعام الواسعة وعيناه تلمعان ببريق خاص اعتاد على ملاحظته المقربون منه، وتابع قائلاً: "جدران هذا القصر تبلغ سماكتها في حدود المتر، ونوافذه عالية وصغيرة كما ترون، لكنني أرجو الله ان لا تحجب هذه الجدران والنوافذ صوت الشعب عني". ثم عاد وكّرر هذا الكلام بحرفيته بعد عشرين عاماً في روايته "زبيبة والملك"، التي نشرها باسم "رواية لكاتبها". وكتبتُ عنها يومها في "العرب" اللندنية تحت عنوان "أجزم أنها بقلم صدام حسين".
هذا الرئيس الأنموذج في وقفته الاستشهادية، أصبح نتيجة التزامه "وعناده"، وبفعل ماكينة إعلام الدولة الاكبر وكل المسخّرين لخدمتها، "الدكتاتور الأول" في نظر الإدارات الأميركية الثلاث المتعاقبة في ذلك الحين.ومع أن أحداً لم يُقسم أغلظ الأيْمان، بدءاً بأي واحدً منّا، وانتهاء بأعضاء القيادة العراقية انفسهم ان العراق كان "واحة الديمقراطية" الممّيزة في هذا العالم. إلاّ أن أحداً لم يُثبت في المقابلورغم كل ما فُبرِك ضده من إدعاءات وأكاذيب تم كشفها كلها أنه كان "غابة الدكتاتورية" القائمة وسط بحر الديمقراطية العربية الرسمية وحتى الشعبية الممتدة من المحيط إلى الخليج!
دليلنا الساطع على ذلك أن من اشترك أو ساعَدَ في أكثر من حرب ضد العراق، عاد واكتشف بعد أن توحّش نظام الملالي وأصرّ على استمرار تدخلاته وأطماعه وجرائمه، كم كان عراق صدام حسين السّدّ الحامي بدماء أبنائه كل إخوته ممن اصطف منهم معه أو حتى ضده. بينما نرى في المقابل ان الرئيس بشهادة بعض من كانوا في صف أعدائه، كان حتى وهو في سجنه الوحيد القادر ـ إذا ما كُتِبت له الحياة ـ على انتشال الوضع العراقي من مأزقه، وإيقاف حمام الدم الطائفي والمذهبي والعرقي، وإعادة الأمن والأمان له، وضبط علاقاته مع الذين أخذوا حريتهم في التآمر عليه وتمزيقه من الشمال إلى الجنوب.
وها هو العالم بدوله وشعوبه يعترف بأنه كان الأصدق والأجرأ من كل رؤوس القوى "العظمى" التي استهدفته. وها هو أيضا يسخر من إصرار كونغرس الشيطان الأكبر على تنفيذ قراره بمحاسبة دول على ممارسات مُدانة ارتكبها أفراد أو تنظيمات لا علاقة لدولهم بما ارتكبوه. مع أن أولوية حق المحاسبة القانونية للمجرمين الحقيقيين من الدول والأفراد تعود لأمتنا ولكل من تضرّر من شعبنا العربي في فلسطين والعراق وسورية و سائر أقطار أمتنا.
...............
لست كافرا ولا ملحدا والحمد لله، ولكنني أتساءل : هل حقا ما يُقال: "جولة الباطل ساعة.. وجولة الحق إلى قيام الساعة"؟
شبكة البصرة
الاربعاء 27 ذي الحجة 1437 / 28 أيلول 2016
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس