إلى الدول المانحة للعراق: لا تتورطوا في موتنا البطيء
هيفاء زنگنة
إلى الدول المانحة للعراق: لا تتورطوا في موتنا البطيء
يقول النظام العراقي انه بحاجة إلى 100 مليار دولار لأعاده اعمار المدن المدمرة جراء قتال تنظيم «الدولة الإسلامية»، وان على العالم توفير المال للنظام باعتبار انه «خاض حربا شرسة نيابة عن العالم».!
ستكون هذه معزوفة النظام الرئيسية في مؤتمر الدول المانحة، الذي سيعقد في الكويت، منتصف الشهر الحالي، وتشارك فيه حوالي 70 دولة ومئات شركات الاستثمار التي أعلن عن توفير مغريات لها لجذبها إلى داخل العراق. وهو موقف يبدو في غاية النبل والوطنية من الحكومة، ويستدعي التشجيع والمساندة، من قبل الجميع. فمن ذا الذي لا يرغب بأعمار بلده، وإعادة النازحين إلى بيوتهم وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين؟
إذا كان الحال بهذا الشكل، لم يقوم عدد من الناشطين الشباب، من داخل العراق، بكتابة رسالة موجهة إلى الدول المانحة بعنوان «لا تقتلونا أكثر من مرة، ولا تتورطوا في موتنا البطيء»؟
لا يختلف الشباب في رسالتهم حول ان العراقيين جميعا يتطلعون إلى يوم يجدون فيه الإعمار قد حل في بلادهم مكان الخراب، ويحسون بالحياة كما يحس بها الآخرون، لكنهم يتوقفون متسائلين عن جدوى المؤتمر. لاسيما وانه ليس المؤتمر الأول الذي يتلقى فيه العراق، منذ عام 2003، مئات المليارات للإعمار، ولم ير الشعب أي اعمار.
تتضمن الرسالة تفاصيل مؤتمرات المانحين، سابقا، والمبالغ التي تم تقديمها إلى الحكومة العراقية لأغراض الأعمار الذي لم يتحقق وبقي سرابا لا يمكن الإمساك به.
يأخذنا الشباب إلى مؤتمر مدريد للمانحين، في تشرين الأول/أكتوبر 2003، عام احتلال العراق قبل 15 عاما، بمشاركة 73 دولة و20 منظمة دولية، حيث تعهد المشاركون بتقديم 33 مليار دولار لإعمار العراق. تلاه، في العام نفسه، مؤتمر طوكيو للدول والجهات المانحة للعراق، الذي تم التعهد فيه بنحو 14 مليار دولار لإعادة الاعمار. ولا تقتصر حكاية «إعادة الاعمار» كذريعة للحصول على المُنح، قبل ولادة «داعش المنتظر» بسنوات، بل هناك، أيضا، مليارات الدولارات التي خصصها الكونغرس الامريكي ومساعدات صندوق النقد الدولي وقروض البنك الدولي، التي ستكبل العراقيين، بالفائدة المركبة، على مدى عقود مقبلة.
آخر الأرقام التي أعلن عنها لإعادة إعمار العراق، موافقة البنك الدولي في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، عن موافقته على منح مساعدات مالية بقيمة 400 مليون دولار «لمساندة جهود التعافي وإعادة الإعمار والتأهيل لمرافق البنية التحتية ذات الأولوية من أجل استعادة تقديم الخدمات العامة في المناطق العراقية المحررة حديثا من قبضة تنظيم داعش».
إذا ما قمنا بعملية جمع بسيطة للأموال التي هطلت على العراق منذ الاحتلال، وبضمنها الأموال العراقية التي كانت محجوزة في صندوق الأمم المتحدة، من سنوات الحصار، لوجدناها تنافس ميزانيات دول العديد من الدول المجاورة، لكن العراق لم يعمر، حتى الآن، بل لم يتم صيانة ما بقي من منشآت بعد قصف الصدمة والترويع واستمر في الخدمة لحين، فأين ذهبت تلك الاموال؟
يؤكد العديد من تقارير منظمات النزاهة والشفافية الدولية بالإضافة إلى المحلية، والى تصريحات الساسة العراقيين، أنفسهم، خاصة حين يتبادلون الاتهامات، بأن الفساد هو الغول الذي يواصل التهام المنح والمخصصات والقروض وعائدات النفط. وهو يمتد ويتوسع، بمرور الوقت، حتى بات من الأعراف الاجتماعية فضلا عن السياسية والاقتصادية، بفضل نشوء طبقة جديدة من المقاولين تدعى «سماسرة الاعمار». مهمتهم مضاعفة قيمة المنشآت أو المشاريع التي يشرفون على إقامتها عدة أضعاف دون أن يكون هناك رقيب، وتُمرر الأرقام في ظل انتشار الفساد في المؤسسات الحكومية.
ويتم، أحيانا، تنفيذ مشاريع البنى التحتية، بحد أدنى من المواصفات، عبر مقاولات يتم بيعها من المقاول الرئيسي إلى مقاول آخر يقبض ثمنها من مقاول آخر، فيكون المبلغ الذي يصرف على المشروع متواضعا جدا مقارنة بالمبلغ الذي يضيع بين سلسلة وسطاء. وقد بلغ تقاسم أموال الاعمار بين السماسرة العراقيين والجهات الامريكية حدا جعل المفتش العام الأمريكي المختص بإعادة إعمار العراق، إلى التصريح في تقرير خاص، أن الحكومة الامريكية لم تتمكن حتى الآن من تحديد وجهة إنفاق 96 ٪ من تلك الأموال. ويعزو عصام الجلبي، وزير النفط السابق، عدم بناء مصاف جديدة للنفط إلى الفساد والسرقات السائدة في مقاولات استيراد المشتقات النفطية مما أدى إلى إنفاق 30 مليار دولار بينما كان في الإمكان استخدام هذه المبالغ لانشاء ما لا يقل عن 6 مصافي عملاقة في العراق.
ما يثير الانتباه، في رسالة «لا تتورطوا.. «، بالإضافة إلى رصدها كمية وكيفية تلاشي الأموال في فضاء الفساد، هو رصدها لنوعية المشاريع المطروحة من قبل النظام العراقي لإعادة الاعمار. فهي، حسب عديد التقارير المحلية والدولية أصلاً «لا يحتاجها العراقيون أو أنهم لا يريدونها». حيث «لم يتم التشاور حولها، بصورة كافية ومناسبة مع العراقيين، فضلاً عن أن الكثير منها كان يتوقف في منتصف الطريق، أو لا يتمكن العراقيون من الحفاظ عليه بعد اكتماله».
يخلص كاتبو الرسالة، بعد رسم صورة العراق الغارق في الصراعات السياسية، الدموية، بين الأحزاب المهيمنة وميليشياتها، وخراب البنية التحتية والخدمات الأساسية، وانتهاكات حقوق الانسان الجسيمة، إلى إن انعقاد مثل هذه المؤتمرات بات مصدر ضرر كبير للعراق وشعبه، لأنه يغطي على الواقع المرير، من خلال تطمين العالم بان هناك جهودا للإعمار، بينما تؤول الأموال إلى جيوب الفاسدين، لاسيما المسؤولين العراقيين الذين أحرزوا رقما قياسيا في سرقة المال العام والفساد. وللإجابة على سؤال ما هو الحل، تقدم الرسالة ثلاثة مقترحات. لعل أبرزها تأجيل دفع الأموال المستحصلة من هذه المؤتمرات لحين استقرار البلد، وان يتسلم زمام الأمور فيه من ليس فاسدا، أو تشكيل صندوق للإعمار بإشراف عالمي.
قد لا تكون الحلول التي يقدمها كاتبو الرسالة مثالية، الا ان تشخيصهم لآفة الفساد وآثارها، ومناشدتهم مؤتمر المانحين، الا يشرعن الفساد، تستحق النظر، وان لم يتم التطرق إلى مسؤولية هذه الدول، على رأسها أمريكا وبريطانيا، في مأسسة الفساد والخراب إثر الاحتلال، مما يجعل حتى تسمية «مؤتمر المانحين» تضليلا متعمدا من قبل الدول المسؤولة عن الخراب، بعلم ومساهمة النظام العراقي.