لا نعرف ما هي معاني الشرف التي يؤمن بها رموز العملية السياسية في
العراق، التي في ظلها تُعقد العقود والمواثيق والتعهدات في ما بينهم، وآخرها مؤتمر الحوار الوطني بدعوة من نائب رئيس الجمهورية. ففي موقع المسؤولية يصبح معنى الشرف هو النزاهة والاخلاص في العمل ونكــران الذات من أجل المجموع، ووضع كل المؤهلات الشخصية في خدمة الرعية، كي يتحقق لهم العيش الرغيد في ظل قوانين وأسس ومبادئ تحترم انسانيتهم. هذا هو منهج المؤمنين بالوطن والشعب المدركين لعظمة المسؤولية واستحقاقاتها في قوانين الارض والسماء.
أما الشرف الذي يؤمن به الانتهازيون أصحاب المصالح الخاصة وسراق المال العام، فانه يتلخص باحتفالات وضجيج اعلامي ينتهي بالتقبيل والتوقيع، ثم يغادر الجميع كي يبدأ فصل جديد من المؤامرات والمهاترات والاتهامات، يدفع ثمنه الرعية، وقد عرفه الشعب العراقي على مدى عقد من الزمن، فالذاكرة العراقية لازالت تحتفظ بصور مؤتمر مكة والقاهرة، التي ما أن عاد من هم في موقع المسؤولية الى أرض الوطن حتى تنكروا لتواقيعهم، ثم كان الابرز في ما بعد وثيقة أربيل التي ولدت من خلالها الحكومة الحالية، والتي صوّرها الكثير منهم على أنها أم الانتصارات، حتى وصفها أحدهم بأنها الدليل الوحيد على الشعور العالي بالمسؤولية التي يتحلى به الساسة العراقيون، لكن القائل أصبح طريدا بعد شهور قليلة من احتفالية التوقيع هذه بتهم الارهاب، ثم صدر عليه الحكم بالاعدام مرتين أو أكثر. تلت ذلك مبادرات أخرى من الحكيم والصدر والجعفري والمالكي والمطلك وعلاوي وغيرهم، صُرف عليها الكثير من الوقت والمال، لكن التواقيع كانت في كل مرة تجف حال خروج المجتمعين من القاعات، وكانت العبارات الجميلة التي ترد في وثائق العهد والشرف تتلطخ بعد ساعات قليلة بعار عدم تحمل المسؤولية الوطنية والاخلاقية والانسانية، فيسقط المئات من الابرياء في تفجيرات اختلطت فيها أياد حكومية داخلية وضامنون اقليميون ودوليون، ورغم كل ذلك مازلنا نسمع كل يوم من الجميع بأن لا خيار لهم الا الحوار، لكن صور الواقع تصدم حتى الابكم فينطلق كي يحاور بأية وسيلة أخرى للوصول الى حل، الا هؤلاء فهم في واد آخر بعيد كل البعد عن منطق وحقائق الاشياء. لقد باتت أمنية كل عراقي اليوم أن يرى واحدا من هؤلاء الموقعين الف مرة، يخرج لمرة واحدة ويعلن أنه، احتراما لتوقيعه، لن يبقى في موقع المسؤولية بعد اليوم، لانه لم يرتق الا ما عاهد عليه. مرة واحدة فقط يعطي أملا لكل هؤلاء البشر القاطنين في مرجل نار ودخان اسمه العراق، بانه مازال هنالك من يملك ضميرا أو ذرة شرف على أهله وشعبه وتراب وطنه، ولا يشرّفه البقاء في موقع مسؤولية يخوله فقط التفرج بصمت على المأساة، والعيش في منطقة معزولة عن
العراق ‘المنطقة الخضراء’، لا يرى شعبه ولا يراه الا عبر وسائل الاعلام، ومع ذلك فهم يصرون على أنهم ديمقراطيون. لقد باتت هذه المؤتمرات حفلات علاقات عامة هدفها رسم صورة تعلن أنهم قادرون على تخطي الاخطاء وانتاج أنفسهم من جديد، لكنها في حقيقة الامر ليست سوى تنفيس عن ضغط يعيشونه كلما تتهدد مصالحهم، وكلما شعروا بأن العملية السياسية باتت مهددة، وأنها ليست لقاءات الهدف منها تغيير الواقع السياسي كي يتغير الواقع على الارض، بل هي تحركات وفعاليات من أجل إعادة تركيز السلطة السيادية بين هذا الطرف أو ذاك، أي أننا أمام حقيقة حية تدل بوضوح على أنهم لا يخافون من انهيار البلد، بل على العملية السياسية التي يفترض أن توضع في خدمة الشعب والوطن، الا في
العراق فكل شيء هو في خدمة العملية السياسية والقائمين عليها. لذلك يتهم رئيس الوزراء شركاءه السياسين بأنهم هم من يقومون بتسهيل التفجيرات والقتل، بهوياتهم وأسلحتهم وسياراتهم وبالتسهيلات التي لديهم، لكنه يرفض الذهاب الى البرلمان كي يفضحهم، لان ذلك يعني حصول تشابك بالايدي بين النواب وتوجيه اللكمات لبعضهم بعضا، وبالتالي انهيار العملية السياسية على حد قوله. انها معادلة الشروع بقتل أكثر من 30 مليون عراقي من أجل بقاء 400 شخصية سياسية. فهل يستقيم هذه الهراء اللاعقلاني مع دعاوى الحرية والديمقراطية والانتخابات التي مللنا من سماعها يوميا؟ ثم كيف يوقّع الشريف عهدا مع من يتهمهم بالقتل والتفجيرات وخراب البلد؟ واذا كان الاخرون شرفاء حقا وبريئين من التهم، فكيف يوقّعون عهدا مع من يتهمونه بأنه هو من يتستّر على الميليشيات ويسمح لها بالاستعراضات العسكرية ويشركها في السلطة، وفوق كل ذلك هو فاشل وليس رجل دولة؟ اذن اننا أمام طبقة سياسية من نسيج واحد مهما اختلفت رؤاهم وتوجهاتهم واختلف ضامنوهم الدوليون والاقليمون، وأن كل من يتصدر السلطة منهم سيفعل مثلما فعل سلفه وكل الاتهامات التي نسمعها في ما بينهم هدفها سلطوي وليس مصلحة عامة. فمن يمسك بزمام السلطة ومقدراتها حريص كل الحرص على اسقاط المنافسين، والمنافسون حريصون على اسقاط من هو في المركز الاول، وبالتالي يعطي هذا التنافس غير المشروع لكل الاطراف الحق في تفجير الاوضاع على أرض الواقع، الى حد الخوض في دماء العراقيين وانتهاك حرماتهم واهدار ممتلكاتهم الخاصة والعامة، كي يصنعوا حقائق على الارض تثبت فشل هذا الطرف او ذاك، وبذلك بتنا جميعا حطبا لنار تصفية الحسابات السياسية. لقد كانت مفارقة كبيرة حقا لكنها جارحة تلك التي أحاطت بانعقاد مؤتمر الحوار الوطني في الاسبوع الماضي. ففي يوم انعقاده كان هنالك اعلان عن عودة ظهور الجثث المجهولة الهوية المصابة بطلق ناري في الرأس والصدر الى واجهة الاحداث في العراق، بعد العثور على 10 ضحايا في بغداد وآخرين في المحافظات، كما ترافق انعقاده أيضا حملة تهجير واسعة النطاق لمواطنين قاطنين في البصرة وذي قار وواسط ونينوى راح ضحيتها 242 من رواد المساجد، حسب تصريح لرئيس الوقف السني المنخرط في العملية السياسية والمدافع الشرس عنها، بينما يعلن رئيس الوزراء استمرار الابادة الجماعية في مدن حزام بغداد تحت تسمية عملية ‘ثأر الشهداء’. لقد أصبحت هذه المؤتمرات احتفالات تذكير بالحجوم السياسية لهذا الطرف او ذاك، وبحدود الجغرافية الطائفية لكل كتلة مشاركة في السلطة كي يستمر الجميع في لعبة توازنات المصالح.
‘ باحث سياسي عراقي