شبكة البصرة د. علي العبيدي ينبغي على العراقين أن يتذكروا دائما رموزهم الفنية والثقافية والحضارية، الذين اسهموا بشكل أوبآخر في بناء نهضة العراق، منذ تأسيس الدولة العراقية، في بداية الحكم الوطني عام 1921، وهؤلاء الرموز هم ركائز الموروث الحضاري بشكل عام الذين يتوجب علينا أن نقيم لهم وزناً، ونحترم إرثهم الثقافي بل ونتغنى به، لا أن نقتلعه من الجذور، أونقتلع دلائله وشواخصه. يقول الاعلام الدولي متمثلا في الصحافة المكتوبة والمرئية.. إن العراقين يسيرون الى الوراء، بعد أن دفنوا كفاءاتهم، واجتثوا شواخص الحضارة، التي كانت نتاجاً لأجيال تعاقبت على بنائها وإقامتها. نقف من هذا الموضوع على حافات الحقيقة، وتضعه ضمن اولوياتها في الحديث عن النهضة الثقافية التي يمتلكها العراق، لذا فقد ارتأت أن ننفض الغبار الذي علق على نوافذ تلك الإشراقات، بعد احتلال العراق وتدمير شواخص حضارته اعتزازاً منها بما كان لرجالات تلك النهضة من أدوار ريادية مكنت العراق من أن يقف مفتخراً بموروثه الثقافي. الموسيقار العراقي الكبير والباحث والشاعر سالم حسين، واحد من ذلك الرعيل، آلت به أحداث الوطن الى التغرب، عرفه العراقيون موسيقاراً وملحناً بأسم سالم حسين، كما عرفه اصدقاؤه في الأسرة الادبية ككاتب وشاعر بأسم سالم حسين الأمير، هو ذلك الفتى الذي ألفته العيون خلف نظارته السوداء يتبهرج بأناقته المتميزة، كانت العيون ترصده عازفاً على القانون، يقود الفرقه الموسيقيه العراقية، خلف الفنان الراحل ناظم الغزالي. سالم حسين منح الاغنية العراقية موقعاً عربياً متقدماً، حين وضع ألحاناً لكبار الفنانين العرب، أمثال سعاد محمد، فايده كامل، وديع الصافي، ونرجس شوقي. لم يعد الموسيقار سالم أمام العيون اليوم، لأنه بسبب تقدم سني عمره اختار لنفسه الأسترخاء والتأمل والبحث، لكنه لم ينسَ أنه ذلك الموسيقار الذي تشربت الموسيقى بدمه، فلم يستقر ومازال يقدم عطاءاته الموسيقيه كلما وجد في ذلك واجباً وضرورة. قصدناه في مسكنه بضاحية جميلة من ضواحي احدى العواصم العربيه، وألقت في حضنه مجموعة اسئلة، أجاب عنها بمنتهى الصراحه والواقعيه. * لاستاذ سالم حسين: في زمن التخمة بالفضائيات التي أصبحت كالدكاكين المملوءة بالغث والسمين، ما الذي حققه هذا التدافع الفضائي على أعتاب المشاهد العراقي بشكل خاص والعربي بشكل عام ونحن نعرف ان لك رأياً واضحاً بذلك؟ نعم لي رأي بهذا الهوس الفضائي الذي تحول الى دكاكين بقالة، بل لي أكثر من رأي خصوصاً تجاه الفضائيات العراقية. التي بلغت حتى الان قرابة الـ(30) فضائية منها من تبث من الداخل ومنها من تبث من اراضٍ عربية، ولا اريد الذهاب بعيداً في تركيزي على دور هذه الفضائيات التي مكنها الاحتلال من التوسع الأميبي بهذا الشكل. هذه الفضائيات كنا نتوسم منها الخير في لمّ شعث العراقيين وجمع كلمتهم وربطهم بماضيهم المجيد وتراثهم العتيد، لكنها راحت تسعى بل سعى - بعضها - فعلاً إلى احلال الفرقة والتناحر بين أبناء الشعب من خلال المادة الفنية أوالثقافية أو السياسية الموجهة والتي أساءت للعراقيين في ماضيهم وحاضرهم، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك في سخريتها من الرموز العراقية السياسية والثقافية والفنية، ونأت عن اهدافها الرئيسية في جمع الناس على كلمة سواء وتضميد جراحات العراق ودفعه نحو أفق جديد يتطلع فيه الى الرفاهية والأمان والاستقرار، سيّما وان العراقيين هم شعب غني بحضارته في وطن غني بثرواته. * هل ترى، أن هذه الفضائيات – المعنّية - كرست وجود المحتل واعداء العراق؟ هذا صحيح، لانها رّوجت وأنتجت برامج ومواد، تشجع على الطائفية وتدفع الى الاقتتال من خلال نبش الماضي، وساهمت في إبعاد الناس عن قيمهم الاصيلة، ووضعتهم في خندق تدني الذوق، والاكثر من هذا أن هذه الفضائيات أُنشئت من اجل خدمة أهداف جماعات وشلل، ولم تؤسس من أجل خدمة المجتمع وتطوير مستويات الادراك ومستويات التذوق النوعي للجّيد من البرامج، وبذلك فقد كانت وما تزال في صورة تكريس وجود المحتل، الذي يتخذ من الصراعات والفتنة ذرائع للبقاء بادعاء فرض القانون وتوفير الاستقرار. وبالنسبة للمادة الفنية المتلفزة، أرى أن هناك بوناً (قيمياً) شاسعاً بين ما كانت عليه قبل الاحتلال وبين ما آلت اليه زمن الاحتلال. وقد يطول بي الحديث وبمرارة في هذا الموضوع، بسبب ما وصلت إليه الحالة من الهبوط والتدهور، فالمادة الفنية سواء كانت (أغنية أم مسلسلاً أم فلماً أم برنامجاً ثقافياً، ام ندوة حوارية) تحمل رسالة ظاهرها يختلف عن باطنها، فهي تقود الى الفتنة والتطرف والايهام، اما في زمن ما قبل الاحتلال الذي يمتد في حديثي هذا الى بداية الحكم الوطني. فان المادة المذاعة أو المتلفزة كانت تخضع الى دراسة من قبل لجان متخصصة لا أحد يتدخل في شؤونها، فالنص الغنائي مثلاً.. يعرض على لجنة دائمة في مقر دائرة الاذاعة والتلفزيون تضم مختلف الاختصاصات الادبية والفنية والسياسية. وهذه اللجنة كانت ترفض الكثير من النصوص ولكتّاب معروفين لكنها تجد في ذلك مبررات للرفض يقتنع بها مؤلف النص نفسه. دعني أمُّر على نص غنائي يتداول الان ونص غنائي آخر لما قبل الاحتلال لأري القارئين او المتتبعين هزالة وتدني مضمون المادة.. الأن هناك اغنية تذيعها فضائيات معروفة تقول (يمّة گرصتني العگربة) وهذه الاغنية ترافق بموسيقى صاخبة وصراخ وحركات ينفر منها الذوق مقززة للنفس. هذه الاغنية لا يمكن لأحد أن يقول عنها شيئاً ايجابياً لأن النص افسد اللحن، واللحن لم يحمل النص على الجمالية، وهذا لا تنفرد به الفضائيات العراقية والعربية بل اختصت به فضائيات عالمية تعمل بوحي من منظمات سياسية على افساد الذوق العام والذوق العربي بخاصة لأنها عوملت بوصلات توحي بإثارة المشاعر والحواس بما يفسد الذوق والتجاوز على الاعتبارات * وأين الخلل يا أستاذ سالم، ونحن نعيش في عصر الحرية وتحطيم القيود؟ تحطيم القيود هو تعبير له معنى فضفاض، فهناك ثوابت في القيم وفي الاعراف لا يمكن بأية حال تسميتها بالقيود، لأنها شكل من اشكال البنى الاخلاقية في المجتمع. أعود الى الاغنية السمجة التي نحن بصددها، فأقول للأسف ان مثل هذه الأغاني تستهوي الحاسة المراهقة، حيث يجد فيها الشباب المراهق متنفساً للهروب من قوالب الضوابط والاطر الاخلاقية وقد نفاجأ على مر السنين بظهور جيل من الشباب ينسلخ تماماً عن ثوابته، التي منها الثابت الوطني الذي يمثل عنوان قوة الشعب وقوة ارادته وايمانه بسيادته واستقلاله. دعني استذكر نصاً غنائياً لأغنية عراقية انتجت في الستينات من القرن الماضي كي اضع المتابعين على قمة النضج في الكلمات واللحن والأداء. وهذا النص هو من اغنية (هذا مو إنصاف منّك غيبتك هلگد تطول) للمطربة العراقية الكبيرة الراحلة سليمة مراد لاحظوا النهج التربوي والاخلاقي في هذا النص، فعندما تقول المطربة (هذا مو إنصاف منك) فانما تخاطب عقل الرجل وتنتقد لجوءه الى حالة الهجر بابتعاده عن حبيبته او زوجته، وهي تذكره بعمق الرابطة الاسرية أو التعاهدية وتعيب عليه سلوك الإضرار بالحبيبة وتهيب به احترام العلاقة والمواثيق المقدسة بين المحب والمحبوب، ثم تضع أمامه مسألة العدل في الحقوق. والإنصاف الذي ورد في النص هو(العدل) بعينه، ناهيك عن اللحن الذي قدّم به هذا النص الذي هو في رأيي غاية في الذوق والرومانسية البريئة والإصالة لأنه مأخوذ من بنائية المقام العراقي الأصيل والإيقاع المؤثر. * بعد كل الملاحظات والإيثارات التي أوقفتنا عليها أين تضع الاغنية العراقية اليوم؟ قلت ان نصوص الاغاني كانت تكتب على اسس وضوابط تقوّى الذائقة الاجتماعية وتبعدها عن التدني، أما الان فهي تكتب بدافع نهم تجاري ومن ذاكرة عمياء لا تقدر أو لا تحسب حسابات انعكاساتها على الذوق العام. فالكاتب يستعجل امره أو هو يؤمن بـ (الصرخات)، أي (صرخات الفيديو كليب) التي تسعى الى تهديم اتجاهات الفن البناءة فتراه وكأنه في سباق ماراثوني، يكتب في اليوم اربعة إلى خمسة نصوص على غرار اغنية(العگربة). خذ مثلاً هذا النص الشعري القديم كم تجد فيه قوة وقدرة على مجاراة الذوق السليم، يقول النص: غيري على السلوان قادرْ وسواي في العشاق غادرْ
ومشّبه بالغصن قلبي لا يزال عليه طائر
حقيقة هناك بعض النصوص الشعرية، التي يقع الاختيارعليها للتلحين، تتضمن مفردات نراها لا تناسب المسمع الاجتماعي العراقي وقد تخدش مشاعر الأسرة المحافظة، نرى أن التصرف في تغيير المفردة الخطرة، مسألة مهمة جداً فتقوم بذلك كما هو في هذا النص الذي اداه الفنان الدكتور فتح الله احمد في مسلسل الملا عثمان الموصلي، والذي قمت بتلحينه، يقول النص: أما الصبوح فإنه فرضُ فعلام يكحل جفنك الغمضُ
غيّرنا كلمة الصبوح التي تعني الخمرة إلى كلمة (الولوع) اي المولع المحبة، هكذا نتعامل مع النصوص بشكل هادف ولم نتركها على عواهنها كما يجري الآن. الموسيقار سالم حسين.. نستطيع القول إن لكل ظرف ما يناسبه من الأغاني، فالعراق الآن بلد توهنه الجراحات في فترة مظلمة بسبب الاحتلال وما جرّه على هذا البلد، فهل خدمت الاغنية العراقية اليوم قضية الشعب العراقي في تقديرك؟ هناك في تقديري ثلاثة أنواع من الاغاني هي: 1- الاغنية الوطنية 2- الاغنية العاطفية 3- الاغنية التراثية نحن نحتاج اليوم الى الاغنية السياسية اكثر من غيرها ولكن ليس النص التحريضي بل النص التعبوي الذي يُعبّيء الناس ويقوّي فيهم حب الوطن ويذكّرهم بقدسية الوحدة والتوحد ونبذ الفرقة، لأن المحتل عمل ضد هذا الإتجاه وعلى كل ملحن ومؤلف نص أن يدرك هذا الهدف لأن المحتل يستفيد من الفرقة والتناحر. لقد وضعت الحاناً وطنية تعزز من لحمة العراقيين وتذكرهم بوقفاتهم الوطنية عبر التاريخ وتعزز حبهم للوطن، وبالمقابل ارى ان - الغير- انصرفوا الى الاغاني التي تحقق الربح ولو كانت على حساب تدمير الذائقة الفنية، وهذا مؤسف حقاً، فالحاجة الى الاغنية الوطنية قائمة لأنها تقوي الشعور بالمواطنة وتحث على محاربة المحتل، والموقف يتطلب ان يتحد الفنانون العراقيون والمؤلفون في وقفة واحدة تملأ الفراغ الفني غناءً وطنياً كي نستطيع ان نقول ان الاغنية العراقية خدمت القضية العراقية. اما ان تبقى الحال على ما هي الآن فإني لا ارى ان الاغنية العراقية قامت بدورها الوطني وهذا لا يعني ان الكثير من الفنانين قدموا نتاجات مشرّفة في المهجر، رغم انهم يمرون بضائقة مادية وعدم رعاية، ولو استعرضنا تأريخ الاغنية السياسية العراقية لوجدنا ان الكثير من النصوص السياسية منعت من البث، لأن السلطات كانت تعتبرها سيفاً مسلطاً على الرقاب -رقاب ظالمي شعوبهم-
. * يرى البعض أنك انسحبت من الساحة الفنية، وتوجهت الى البحث والتأليف ونظم الشعر، لماذا تعيب على الآخرين ذلك؟ هذا صحيح، ولكن عندما اجد امامي نصاً مملوءاً يخدم قضايانا وخصوصاً القضية العراقية، فلن اتوانى عن الاشتغال به وتحويله الى مادة فنية، مثال ذلك، ذات يوم كنت اتصفح ديوان الشاعر العراقي الكبير الراحل الدكتور مصطفى جمال الدين، الذي عرف عنه هيامه ببغداد وشغفه بها وحبه للعراق وانغماسه في هذا الحب فقرأت قصيدة له بعنوان (بغداد ما آشتبكت عليك الاعصر) وبغداد اليوم اصبحت ذلك الطائر المهيض الجناح، تنوء تحت وطاة الاحتلال تمزقها التناحرات وتعيث في عفافها وطهرها أيادي السوء التي جاءت من خلف الحدود وتلطخ ثوبها الابيض، ربما تستغيث وتنادينا فهل يستطيع من يملك غيرة ونخوة ان لا يرد استغاثة بغداد.. قررت بعد ان وجدت ان قصيدة الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين هي الاوفر حظاً في استحقاقات بغداد، ان الحن هذه القصيدة وتوكلت على الله، فوضعت لها لحناً، كان بمستوى قوة النص، وقد عهدت اداءها الى المطربة السورية (فاتن صيداوي) والاغنية الان تقدم من خلال بعض الفضائيات دون الاخرى وهذه ملاحظة اسجلها على بقية الفضائيات التي تصم آذانها عن العمل الوطني الجيد وتنصرف الى الاغاني الهابطة والمتدنية، تقول هذه القصيدة الملحّنة : بغداد ما آشتبكت عليك الاعصرُ إلا ذوتْ ووريق عمرك اخضرُ
مرّت بك الدنيا ووجهك مشمسٌ ودجت عليك ووجهُ ليلك مقمرُ
ورنت عليكِ الحادثات فراعها ان احتمالكِ من أذاها أكبرُ
* إذن ما جديدك في البحث والتأليف والشعر؟ انا اهتم في البحث التأريخي والتراثي والفني، وفي هذا المجال اشتغلت عدداً من هذه الكتب وصدر لي منها بعد الاحتلال ديوان شعر تحت عنوان – الأفنان – وكتاب بحثي في التراث الادبي تحت عنوان – الشعر والادب في اقدم الحقب – تناولت فيه الحركة الشعرية في الفترات السومرية والاكدية والآشورية وتضمن البحث قصائد قمت بترجمتها من اللغات الثلاث (السومرية والاكدية والآشورية) الى العربية وقد صدر هذا الكتاب مؤخراً في دمشق، وقد تناولته الاوساط الادبية بالنقد والتحليل كما اقوم الان باعداد قصائدي تمهيداً لإخراجها في ديوان جديد سمّيته (الافنان الملتهبة) وهناك مخطوطة تنتظر دورها في الطبع تحت عنوان (الشعر والموسيقى عند الصوفية) يشاركني في كتابتها واعدادها الدكتورعلي العبيدي، أما اصداراتي قبل الاحتلال فكانت اغلبها تعنى بشؤون الموسيقى والالحان وهي: 1- دليل سلالم المقامات العربية 2- زرياب والأدب الاندلسي 3- الموسيقى وإلانشاد الديني 4- الموسيقى والغناء في بلاد الرافدين 5- سيرتي الذاتية 6- الحان الملا عثمان – وهي دراسة في موسيقى الملا عثمان الموصلي 7- قياسات النغم عند الفارابي 8- دراسة آلة القانون، وهذا الكتاب يدّرس الآن في المعاهد العربية للموسيقى * انت تنحدر من بيئة ريفية – من ريف الناصرية – التي صدّرت هذا النوع من الفن الى بقية ارجاء العراق، فلماذا لم يكن لك دور بارز في مسيرة الاغنية الريفية؟ كانت سوق الشيوخ التي تقع عند الراس الشمالي لهور الحمار، منطلقاً للأغنية الريفية وهي مسقط رأسي، وكنت في طفولتي مولعاً بسماع أغاني الفلاحين الذين يجوبون الهور جيئة وذهاباً، ينقلون محاصيلهم الزراعية آنذاك الى المدن عن طريق واسطة النقل الوحيدة والمعروفة بـ(المشحوف) كذلك الحال بالنسبة لصيادي الاسماك من الهور وهم كثر، كنت اصغي إلى اصوات لم اسمع مثلها في يومنا هذا، تؤدي الاغنية الريفية على الفطرة، وكنت اذوب مع هذه الالحان، ولاشك ان هذه الاغاني كانت تعتريها مسحة من الحزن الى حد البكاء.. وكنت اتساءل مع نفسي لماذا هؤلاء على هذه الشاكلة، وعندما دخلت اجواء الهور وكنت حينها في الصف الخامس الابتدائي وابن العاشرة من العمر، سئمت هذا الجو المشحون بالالم، الذي تبكيني اغانيه، رغم الصور الجميلة الاخرى التي ساعدتني على الخروج من هذا الجو الحزين، الى عالم رايته جميلاً، يتدفق فرحاً، رأيت صورة صيادي الاسماك، واسراب الطيور المهاجرة وسمعت قصص الحب البريء والانغام الملونة التي تصدر عن تعشق الريح بالقصب البردي، وتؤسر القلوب وتدفع الى البحث عن جدار مساحته، كمساحة القلب لرسم هذه الصورة عليه، فقررت ان اشارك هذه البيئة، فرحها وغبطتها. لقد وجدت ان في ذاكرتي الحاناً تحتاج الى كلام وانا ما زلت صبياً، هذه الالحان كانت تحاصرني دائماً، اتسعت عندي رغبة التلحين بعد ان سمعت اسطوانات لمشاهير المطربين الريفيين، جلبها اخي الشاعر والمربي عبدالمنعم حسين من بغداد، رسخت هذه الالحان في ذاكرتي وتفاعلت مع سحر البيئة وما تختزنه ذاكرتي من شعر حفظته عن كبار الشعراء، أحسست انني امتلك قدرة في اقتفاء اثر الشعراء والفنانين وكانت باكورة انتاج قريحتي هذه الابيات الاربعة من الشعر: يا طيور الروض غني بالنشيد وآرسلي الالحان في الوادي السعيدِ
وتغنّي بهوى أمتنا وآنثري اجمل باقات الورود
كم يطيب اللحن في دجلتنا بالفرات العذب والطلع النضيد
بالجبال الشمّ بالوادي الذي سطعت فيه حضارات الجدود
لم اتوقف عند كتابة هذه الابيات بل وضعت لها لحناً، ردده طلاب مدرسة البطائح الابتدائية في هور الحماركل صباح. ولمّا كان هذا التأثر بالنص الشعري الفصيح قد اخذ مأخذه في ذائقتي الادبية، فقد وجدت نفسي فيما بعد منقاداً الى كتابة القصيدة العمودية وتلحينها بما يناسب قوة النص، وهذا الشغف ابعدني عن التأثر بالاغنية الريفية والتعاطي بها، لكن ذلك لا ينفي الانغلاق على المطربين الريفييّن الذين يطلبون مني الحاناً. * وهل قدمت الحاناً ريفية لهم؟ نعم قدمت الى الفنانة الراحلة لميعة توفيق اربع اغاني، هي (شويْ شوَيْ) و(مشينه يمه مشينه) و(متگلي يا گلبي اشبيك) و(ﭽنهم نسوني احبابك) وهذه الاغاني كانت من تأليفي وقد كتبتها ولحنتها وحفّظتها للفنانة لميعة توفيق بوقت قياسي، بلغ الساعتين ونصف الساعة وكانت هذه المغامرة موضع دهشة واعجاب المعنيين بشؤون الفن والاذاعة وحققت لي صدىً طيباً وحققت لي شهرة أحتاج للحصول عليها الى خمس سنوات من العمل المتواصل ولم تقتصر الحاني على الاغنية الريفية، بل ركزت على اغانٍ معاصرة فقد لحنت للفنانة سليمة مراد اغنية (يا هلي) واغنية (العيد) ولحنت للفنانة مائدة نزهت قصيدة للفارابي (الشوق والامل) وقصيدة اخرى (لا تعتذر) للشاعر خليل خوري، كما لحنت ايضاً للمطربة صبيحة ابراهيم، ومن شعر الشاعر كمال الحديثي قدمت لحناً للفنانة وفاء بغدادي هو (جيش العراق لك الفدا) وللفنانة احلام وهبي لحنت اغنية (ليالي الخليج) التي سجلتها وغنتها بدول الخليج، وللفنان فتح الله احمد لحنت قصيدة (اشكو الغرام وانت عني غافل) غناها ضمن مسلسل ملا عثمان الموصلي كما ذكرت سلفاً، وللفنانة عزيمة توفيق، لحنت كذلك للفنانة نظيمة ابراهيم، أما الفنان فؤاد سالم فقد قدمت له اكثر من لحن منها (يسوار الذهب) وللمطرب الراحل داوود العاني لحنت قصيدتين واحدة من شعر البرعي والثانية من شعر البوصيري وقصيدة من شعر محمد جميل شلش واخيراً لحنت لمطربة عراقية مقلّة اسمها انطوانيت اسكندر. * الاستاذ سالم حسين.. انت من اوائل الملحنين العراقيين (الذين تعاطوا مع الفنانين العرب وبذلك نقلت اللحن العراقي من الساحة العراقية إلى الساحة الفنية العربية) هل لك ان تمر بنا على بعض هذا النشاط المهم؟ ما زلت استذكر هذه النشاطات بفخر غامر، فلقد تمكنت بنجاح كبير أن اضع اللحن العراقي في مصاف الالحان العربية وبدأت تجربتي هذه بالفنان المصري اسماعيل شبانة شقيق الفنان الكبير الراحل عبدالحليم حافظ حيث قدمت له لحناً عراقياً لنص عراقي وهو (للناصريه) ولحنت للمطربة السورية دلال شمالي اغنية (يليّ عزمتوا على السفر وياكم خذوني) وقدمت للفنانة الكبيرة سعاد محمد من كلماتي والحاني اغنية (يا ساكن بديرتنه شلون وياك) كذلك لحنت للمطربة نور الهدى قصيدة شعرية هي (أترى يذكرونه أم نسوه) للشاعر الاخطل الصغير، ومن شعر الاخطل الصغير ايضاً لحنت للفنانة المصرية نرجس شوقي قصيدة (سائل العلياء عنّا والزمانا) وللمطرب العربي اللبناني الكبير وديع الصافي لحنت قصيدة للمتنبي هي (مالنا كلنا جوىً يا رسول) وقصيدة اخرى للمتنبي غناها ايضاً وديع الصافي هي (تأني الشموس الجانحات غوارباً) ولحنت ايضاً نصاً مصرياً للفنانة شهرزاد، اما الثلاثي المرح فكان لهن نصيب من الحاني مثل اغنية (شجابك علينا شوصلك) واغنية (طير الفرح) واغنية (ما ريده الغلوبي) ولثلاثي النغم لحنت ايضاً، أما الفنانة الكبيرة فايدة كامل فقد غنت من الحاني (على بغداد وديّنه). * ونغادر دوحة الغناء والموسيقى إلى رياض الشعر، أنت شاعر فهل جمعتك لقاءات مع شعراء كبار من العراقيين والعرب أغنت تجربتك الشعرية؟ كانت لنا منتديات ادبية في ثلاثينات القرن الماضي، جلاّسها من كبار الشعراء في مقدمتهم الشاعر الشيخ محمد رضا الشبيبي ووالده الشيخ جواد الشبيبي وشقيقه الشاعر الشيخ محمد باقر الشبيبي، وقد كنت اتحدث الى الكثير منهم كما كنت قريباً من الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وكنت اعرض عليه ما أكتبه واصغي الى ملاحظاته وقد عرضت عليه الابيات الاربعة التي مرّ ذكرها فابدى اعجابه الشديد قائلاً: منذ كنت بنفس عمرك لم اكتب أبياتاً بقوةِ هذه الأبيات، ومن الشعراء الكبار الآخرين الذين كان لي شرف حضور مجالسهم والاستماع اليهم، الشاعر الكبير علي الشرقي والشاعر الكبير محمد علي اليعقوبي والشاعر محمد هادي الدفتر صاحب جريدة الدفتر، والشاعر الراحل صادق الملائكة والد الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة والشاعر صادق الاعرجي والشاعر عبدالرحمن البنا، والشاعر كمال نصرت وحافظ جميل ومحمدحسين الشبيبي، الا يكفي ان تكون هذه الجمهرة الكبيرة من الشعراء مدرسة لي. * وماذا عن الخصوصية الشعرية التي نُسجت بينك وبين الجواهري بشكل خاص؟ الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري كان محّباً لمن يكتب الشعر وكان مشجعاً له، كان لي معه اكثر من لقاء وكان الشاعر الوحيد الذي اعرض عليه كتاباتي لأنه لا يثبط همتي، بل كان يهتم بما اكتب ويسجل لي ملاحظاته وذات يوم عرضت عليه قصيدتي الثانية التي كان مطلعها: يا راقد الطرف هل فكرت في سهري وهل علمت باني صرت في خطرِ
يا من على الشط تمضي الليل محتضنا ً ضمياء فاتنة الألحاظ والصور
تسقيك من فمها خمراً وتقطف من ثمار وجنتها ما طاب من ثمرِ
وقد علق الجواهري على هذه الابيات بقوله: (يا سالم، انا قلت الشعر في السن الخامسة عشرة، وانت في مثل هذا العمر تقول شعراً كأنه من شعر كبار الشعراء المتمرسين، سر على هذا النهج وبعهدتي انك ستصبح مثلنا)، وعندما التقيت به في بغداد في سبعينات القرن الماضي بعد عودته من الغربة، حيث خصني بزيارة الى بيتي وكانت غير متوقعة وطلب مني ان اطلعه على آخر كتاباتي الشعرية، فاطلعته على موشح شهرزاد، الذي اقول فيه: اخذ القلب بعيداً ثم عادْ قلت ردي لي فؤادي شهرزاد وهذه المرّة لم يكن مستوى رضاه مشجعاً حيث ذكرني بابيات الشعر الاربعة التي كانت اول كتاباتي وقال (أرى ان كتابتك الاولى اقوى من الحالية) فاجبته يا ابا فرات يبدو ان انشغالي بالموسيقى وهمومها جعلت شاعريتي تراوح في مكانها. * وهل استذكرت الجواهري بعد رحيله؟ كيف لا، فقد زرت ضريحه وناجيته شعراً وكأني اسمعه يرّد عليَ، وكنت قد لحنت له قصيدة يا دجلة الخير وهو لمّا يزل في الحياة، وقد حمل تسجيلها اليه في دمشق إبنه فرات، وحين سمعها استهواه فيها ادخال مقاطع من اغانٍ شعبية مثل (الهـﭽـع) فعلق قائلاً كيف عرف سالم انني احب الفلكلور الشعبي، وقد غنتها المطربة الهاوية بلقيس عام 1989 في مهرجان الاغنية العربية، وحازت على الجائزة الاولى في المهرجان. * تحتفظ مسيرتك الفنية بمحطة مهمة جداً، هي محطة تبنيك في ستينات وسبعينات القرن الماضي لشباب هواة، اصبحوا اليوم من المطربين الكبار في العراق، ماذا تحدثنا عن ذلك؟ نعم احتضنت عدداً لا بأس به ولحنت لهم ثم قدمتهم الى الوسط الفني وهؤلاء هم غادة سالم ووفاء بغدادي وهناء، وفالح الجوهر والمطرب جعفر حسن والمطرب فؤاد سالم واحمد الراوي وآخرهم جمال ناصر وسيمون اللذان لم يستمرا في المسيرة الفنية. * الاستاذ الموسيقار سالم حسين.. بعد هذه المسيرة الفنية المكتنزة بالعمل الجاد والإرث الفني الزاهر.. هل - تدندن - بلحن يشغلك الآن؟ نعم امامي نص شعري جميل استهواني جداً، كتبه الشاعر الدكتور علي العبيدي وانا مشغول بوضع اللمسات الاخيره للحنه، وهذا النص عن بغداد التي يخاطبها الشاعر العبيدي قائلاً: سلامٌ كم يليق بك السلامُ وكم يحلو لأهليـكِ الوئامُ
وكم تهفو إليكِ قلوبُ قومٍ أضاموا النائباتِ ولم يضاموا
أخبار الحرية شبكة البصرة
الجمعة 24 ربيع الثاني 1436 / 13 شباط 2015
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس