إسرائيل تضرب بلا تحفظ… ويحتفظ زعماؤنا بحق الرد
د. مثنى عبدالله
December 28, 2015
■ أعترف بأنني عييت وأنا أبحث في معنى الاحتفاظ بحق الرد. لم أجده في كتب السياسة ولا في كتب الفلسفة. منذ أن ولد جيلي والأجيال اللاحقة ونحن نسمع بهذا السراب الذي وضعنا كل آمالنا فيه بلا جدوى.
في عقود القوة النسبية والصحوة الشعبية وبقية ضمير لدى الحكام، كنا نسمع بالاحتفاظ بحق الرد في السطر الأخير من كل البيانات التي تنعى لنا منشأة عسكرية أو اقتصادية أو علمية دمرتها إسرائيل على حين غرة، وفي عصور الفورة والثراء المالي سمعنا به أيضا، وها نحن اليوم في عصر الدولة الشيعية والسنية والكردية والعلوية والخامنئية والأردوغانية نسمع به كذلك. وكأنه قدر علينا أن تبقى صيغة البيان بالاحتفاظ بحق الرد على إسرائيل، تطرق مسامعنا. انتظرنا أجيالا وأجيالا كي نعرف متى ينفلت الغضب الساطع ونمارس حقنا في الدفاع عن وجودنا، لكن من دون جدوى، وكأن الاحتفاظ بحق الرد هو استثمار يحرص الحاكمون على الاحتفاظ به مدى الحياة، بينما هو في الواقع رصيد ذل وعار يقضي على أجيالنا بالتناوب جيلا بعد جيل. وعندما يُسأل أصحاب القرار لم لا يوجد رد، يقولون لا نريد أن ننجر إلى معركة يريدها العدو، دعونا نختار الوقت والمكان المناسبين الذي نرد فيه على العدوان الصهيوني، لكن أفعال زعاماتنا تكذّب هذا القول جملة وتفصيلا. لقد احتلت فلسطين وكانوا يقولون يجب أن تعود من النهر إلى البحر، وأن الكيان الصهيوني كيان سرطاني غريب في قلب المنطقة، لكن السنين التي تلت أثبتت أنهم يركضون لاهثين خلف الصهاينة، حتى أننا قدمنا لهم مبادرة السلام العربية، وتنازلنا فيها عن نصف فلسطين، وضمنّا لهم الأمن والأمان والتطبيع وحسن الجوار، وأثبتنا لهم أننا مُتحضرون ونعرف كيف نتنازل حتى عن حقوقنا في الوقت المناسب. لقد فعل الحكام ذلك لأنه الشرط الوحيد الذي يعطي لهم المقبولية لدى الأمريكان والغرب، ويضمن لهم البقاء على كراسي السلطة. ولو نظرنا إلى الخريطة العربية لوجدنا أننا تنازلنا عن عربستان إلى إيران، والإسكندرونة إلى تركيا، وسبته ومليلية إلى إسبانيا، ومازلنا إلى الآن على استعداد تام للتخلي عن أراض عربية أخرى، كلما تطلب الامر الحفاظ على كراسي أصحاب السمو والفخامة، وسنبقى نسمع السطر الأخير من البيان الشهير بالاحتفاظ بحق الرد. ألم يتخلوا عن العراق إلى الامريكان وأقسموا لبوش ألا يحلقوا ذقونهم إلا بعد أن يكتمل الغزو ويصبح الاحتلال أمرا واقعا؟ وها قد باع الأمريكان العراق إلى إيران وباتت حدودهم على حدود السعودية والكويت والأردن وسوريا. لا أجد أي تفسير لهذا الادب الجم الذي يتساقط علينا ونحن نتعامل مع الاعداء آكلي حقوقنا وثرواتنا ومنتهكي أعراضنا، بينما الرد بين بعضنا بعضا يأتي سريعا بلا الاحتفاظ بحق الرد، فنظهر كل بطولاتنا الإعلامية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، فندمر هذا القطر العربي أو ذاك على رؤوس أبنائه، الذين نرتبط معهم بروابط الدم والدين والتاريخ والمصير. حصل هذا مع العراق حين اختلف الزعماء العرب في ما بينهم فصبوا جام غضبهم على شعبه، وفتحوا خزائن أموالهم إلى الاعداء كي يغرفوا منها لتمويل الهجوم على هذا البلد، وها هي إسرائيل قبل أيام قليلة تضرب مرة أخرى في قلب دمشق، فنرى ملامح الارتياح تعلو نبرتها في الإعلام الرسمي لعدد من أقطارنا العربية, وكأن سوريا ليست بلدا عربيا، ولا شعبها ينتمي إلى العروبة بصلة، ولا كرامتها كوطن من كرامة وشرف الأمة. إنهم ينظرون إلى الاسماء والمنظمات والشخصيات التي يختلفون معها، فيفرحون باستهدافهم من قبل إسرائيل، لكن ينسون أن كرامة قطر عربي هي التي تنتهك. إنهم يتعاملون مع الجزئيات على حساب الكل. أيهما أهم من منطوق الأمن القومي العربي، خسارة الحاكم لكرسيه أم خسارة قطر عربي؟ ما الذي جناه العرب من تغير النظام السياسي في العراق؟ ألم يذهب العراق هدية إلى إيران التي باتت تهددهم من أرضه؟ الغريب أن حكامنا حين يكرهون بعضهم بعضا، يكرهوننا نحن الشعب أيضا، بل يكرهون حتى أرض وسماء ومياه وهواء ذلك القطر الذي اختلفوا مع الحاكم فيه. أتذكر حين كنا ندخل إلى قطر عربي مجاور بجواز السفر العراقي، كان أمن الحدود يحشروننا في غرفة صغيرة ويبدأون في استنطاقنا الواحد تلو الآخر حتى نثبت براءتنا، وغالبا كانوا يسمحون لبعض افراد العائلة بالدخول، ويرجعون البعض الآخر منهم إلى الحدود العراقية من دون سبب، فقط من أجل الإذلال. وعندما كانت طائرتهم تقلنا من مطار بغداد وتحط في مطارهم، كانت تقف في ركن بعيد من أرض المطار دون جميع المسافرين من الجنسيات الأخرى، وكأن بنا داء خطيرا يخشون انتقاله منا إلى الاخرين.
إن كل هذه المؤشرات تقول بأن هنالك خللا بنيويا عميقا في إدراك المصالح العربية، لذلك نجد التناقض موجودا حتى بين الأقطار التي يجمعها مجلس إقليمي واحد ونسيج اجتماعي متشابه، وأن كل حكامنا يفهمون ما يجب فعله بشكل مجزأ وليس موحدا. تذكروا بأن علاقات استراتيجية بنيت وروابط وحدوية أنشئت بين هذا القطر أو ذاك، لأنها ذهبت إلى الجحيم على حين غرة في بضع اسابيع أو أشهر، وانتقلت كل تلك الحميمية في العلاقات إلى عداء وشر مستطير. أنظروا إلى أن البعض منهم يرتبطون بعلاقات استراتيجية مع إيران، والبعض الآخر يرفضها، وأخرين يريدون بل يرتبطون بعلاقات مع إسرائيل وينسقون معها سرا وعلنا، والبعض الآخر يرفض ذلك.
بعضهم يتخذ الغرب مُخلصّا بينما آخرون وجهتهم موسكو، حتى التعامل مع الملف السوري يتخذ أشكالا مختلفة، فالبعض لازال يعتبر الرئيس السوري، رغم الكارثة التي فعلها في هذا القطر على أنه مفتاح الحل، والبعض الآخر مازال يصر على رحيله. هذه الاشكالية في العلاقات والتوجهات العربية العربية هي التي يستثمر فيها الغرب وأمريكا وإسرائيل، وهي الطريق الامثل لهم لتحقيق مصالحهم على حسابنا، ونبقى رهينة لهيمنتهم مشتتين مشرذمين نواصل خدمة الغرب والشرق على حساب أمننا ومصالحنا، فالجميع لازالوا حتى اليوم لا يستطيعون تحديد هل هم هدف لتأثير خارجي أم أنهم دول قادرة على تحقيق مصيرها، كل منها على حدة أو جماعة على مستوى المنطقةـ كما لازالوا لا يستطيعون أن يكونوا فضاء موحدا من النواحي الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
هذا الواقع هو الذي يبقي الأمة تعيش خارج السياق الطبيعي الذي يسير فيه العالم، فتبقى تسجل الانتهاكات التي يفعلها الآخرون بها، بينما تبقى عاجزة تماما عن الرد حتى بنطاق أضعف الإيمان.
٭ باحث سياسي عربي
د. مثنى عبدالله