عجباً… لماذا يرفض العراقيون قاسم سليماني قائدا لجيشهم؟
د. مثنى عبدالله
عجبا وألف عجب. منذ أسابيع وحتى اللحظة يستمر جدل شعبي عراقي أدلى مثقفون وكتاب دلوهم فيه، بخصوص تولي الجنرال قاسم سليماني قيادة الحملة لتحرير الموصل. وكعادتنا أنقسمنا إلى معسكرين، معسكر يؤيد وبقوة تولي الحاج والذراع اليمنى للولي الفقيه قيادة القوات المهاجمة، مستنداً في تأييده على الصفحات المشرقة التي سطرها الجنرال، ليس في الفلوجة وجرف الصخر وديالى وصلاح الدين وحسب، بل في سوريا ولبنان التي ظهر فيهما الرجل علنا، وفي ساحات عربية أخرى ظهر فيها سرا بين أتباعه وأنصار فكره وأجندته.
كما يستشهد هؤلاء القوم بالتاريخ الإسلامي وعصر الفتوحات فيه، مؤكدين على أن القادة المسلمين الذين فتحوا أمصاراً كثيرة، لم يكونوا هم من أهلها بل كانوا من بلدان أخرى، متناسين وبكل بساطة أن أجندة عصر الرسالة والفتوحات الإسلامية ليست هي أجندة عصر الولي الفقيه وإيران. أما الفريق الآخر فيرفض وبقوة هذا الموقف، مستنداً على حقائق التاريخ القريب والبعيد، الذي يشير وبشكل واضح تماما إلى أن كل حروب إيران كانت في أراض عربية، نتيجة أطماعها التوسعية خاصة في الشأن العراقي، التي ما فتئت تنظر إليه على أنه ليس جزءا من نفوذها الثقافي فحسب، كما يقول علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني، بل هو جزء من هويتها، وهو عاصمة أمبراطوريتها اليوم، وهذا أمر لا يمكن الرجوع عنه، على حد تعبيره. وعليه فأن من يبني تصوره للعلاقة مع العراق على هذا الأساس الباطل، كيف يمكن أن يكون هو المنقذ؟
يقينا ان ما نقله الفريقان هو جزء من الصورة وليست الصورة كلها، بل انه يكاد يكون مجرد مناكفة شكلية لا معنى لها أعتاد عليها العراقيون منذ الاحتلال وحتى اليوم. فالانقسام الطائفي الحاد الذي ضرب المجتمع أفقيا وعموديا غيّب الحالة الوطنية، وجعل مواقفنا هي مجرد ردود أفعال لما يقوله ويتخذه الطرف الآخر لا أكثر، وهو وضع شبيه بحرب باردة لا تتوانى أن تستعر إلى حرب طائفية بين الحين والآخر. فلقد غاب عن الطرفين أن العراق اليوم ليس دولة بالمعنى المتعارف عليه، وغيابه ملموس في كل زاوية وموقف حتى أنه بات مجرد مسرح للخلافات والفساد، كما ان السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية جميعها موزعة في أكثر من مكان، ويتحكم بها أفراد وأحزاب وميليشيات لا يملكون أي صفة تمنحهم الحق في ممارسة هذه السلطات، لكن هذه الحالة وللأسف الشديد تكاد أن تكون غير محسوسة بالنسبة للكثيرين نتيجة النفخ الطائفي، لذلك تأتي مناقشة الأمور الوطنية المهمة دائما مبتسرة، ومتناولة من جانب واحد أو جزء من المشهد وليس المشهد كله.
لذا يبدو النقاش والجدال بشأن جواز تولي قاسم سليماني من عدمه، قيادة القوات التي ستتولى عملية تحرير الموصل، أمرا بعيدا تماما عن الجدية في مناقشة الواقع العراقي. أما كان الأولى بالطرفين المؤيد والمعارض لقاسم سليماني أن ينظرا إلى رئيس جمهورية العراق البريطاني، ورئيس وزراء العراق البريطاني، وعدد غفير من نواب ووزراء السلطتين التشريعية والتنفيذية البريطانيين والكنديين والدانماركيين والسويديين والباكستانيين والأفغان؟ اليس من المفروض أن يأتمر وزير الدفاع ووزير الداخلية ومسؤولو الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، بأمر رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة؟ أذن ما فائدة أن تجلب وزير دفاع أو أي مسؤول عن الأمن الوطني والقومي عراقي أبن عراقي إلى الجد التاسع عشر، بينما الأمر يأتيه من القائد العام للقوات المسلحة، الذي هو رجل بريطاني أقسم بقسم الولاء إلى صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا، محافظا على أمن المملكة المتحدة ورعاية مصالحها؟ وهو القسم نفسه الذي قاله رئيس الجمهورية وبقية النواب والوزراء الذين يحملون جنسيات أجنبية. أين هي السيادة الوطنية العراقية التي يمكن بها أن نمنع قاسم سليماني من قيادة الجيش العراقي، بينما لا يوجد قرار وطني مستقل في البلد، وأن مراكز القرار فيه مخترقة من كل الأجهزة الاستخباراتية الإقليمية والدولية؟ أتذكرون كيف ان نائبا أسبق لرئيس الجمهورية طلب من سفير إيران في بغداد المساعدة في تشكيل الحكومة العراقية بعد أن أستعصت ولادتها؟ وهل ننسى تصريح الرجل نفسه عندما قال، أن السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء في بغداد، والتي لا تبعد سوى أمتار قليلة عن مقرات الحكومة العراقية، تحتفظ بكل تسجيلات الاجتماعات والحوارات العراقية بالصوت والصورة؟ ولو كانت هنالك ذرة سيادة وطنية، لما استطاع آلاف الزوار الإيرانيين والأفغان والباكستانيين، ومن شتى أصقاع الأرض، الذين جاءوا لاداء مراسم الزيارة في العتبات المقدسة العام الماضي، أن يدخلوا عنوة الأراضي العراقية دون جوازات وتأشيرات سفر، بل حتى دون أي مستمسكات ثبوتية يفترض أي إنسان يحملها معه في حله وترحاله.
وقد كانت صور الإهانة للسيادة العراقية واضحة، عندما جاءوا حاملين معهم قضبانا حديدية حطموا بها جدران المركز الحدودي العراقي مع إيران، وأعتدوا على حرس الحدود والموظفين العاملين في المركز، ولا أحد يعلم حتى اليوم، من رئيس الجمهورية إلى أدنى موظف في الدولة العراقية، هل عادوا إلى البلدان التي جاءوا منها أم استقروا في العراق؟
ان وجود قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني على رأس القوات المحررة للموصل من عدمه، هو نتيجة وأثر يتمدد ويتقلص تبعا للسبب. أما السبب فهو إطباق المشروع السياسي الإيراني على العراق، والذي دخل إلى كافة مفاصل وتفاصيل الحياة فيه.
ومخطئ من يتصور أن الإيرانيين يتحركون فقط على هذا الطرف دون الآخر في العراق، فليست لديهم خطوط حمراء على أي جهة، ويتحركون ويجتمعون مع زعامات السنة والشيعة والكرد، ومع شيوخ القبائل والعشائر ويقدمون الدعوات لهم لزيارة إيران لمناقشة الوضع العراقي. أنهم يراهنون على احتواء العراق وليس احتواء هذه الطائفة أو تلك، لان مشروعهم أكبر من أن يعتمد على طائفة أو زعامة سياسية أو دينية. كما شرعوا ببناء مؤسسات في العراق على غرار الحرس الثوري الإيراني، كي تتولى السلطة الفعلية من خلال مسك مصادر القوة الناعمة والصلبة فيه، وان استطالة الاستكانة في الشعب العراقي تجعل المواقف الحازمة من أي موضوع تأتي من اناس متطرفين، بينما يحتاج العراق إلى موقف حازم من قبل اناس شديدي الاعتدال، وأن مزاوجة الاعتدال الفكري مع الحزم في الموقف، هو الذي يجب ان يفهمه قاسم سليماني ومن ورائه المشروع الإيراني، وهو القوة غير المتوقعة على الاطلاق، والفعل الانتفاضي الحقيقي القادر على اسقاط كل المشاريع الأجنبية.
ليعتز من يعتز بطائفته ومذهبه وقوميته، لكن على الجميع أن لا يكون دافعهم في النظر إلى قضايا الوطن هو صفاتهم الطائفية والمذهبية والاثنية، والانحياز الأعمى إلى قيادات شيعية وسنية وكردية تؤمن بأن الارتباط بالخارج أهم من السلم الأهلي لأن به دعما ماليا وسياسيا وغيره، عندها سيجد الكل أن انجازهم سيكون كبيرا. وان اهتمام الإيرانيين وغيرهم في العراق ليس لمصلحة شعبه، بل لانه الملعب الذي يستعرضون فيه عضلاتهم السياسية والعسكرية والاستخباراتية كي يخدموا مصالحهم.
٭ باحث سياسي عربي