ماكرون: عين فرنسية تهوى التجديد
د. مثنى عبدالله
يقول أحد المفكريين الاستراتيجيين «إن القادة لا يخترعون شيئا جديدا في الاستراتيجيات، إنما يجددون ما كان وحصل عبر التاريخ». فهل ينطبق هذا القول على الدور الذي يلعبه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؟
يُقال إن انتخابه كان نكاية شعبية بكل الذين سبقوه وليس حُبا فيه. فقد سئم الفرنسيون الطبقة السياسية التقليدية وآثروا التغيير، علّ هذا الشاب القادم من خارج الطبقة السياسية التقليدية أن يتقدم بهم الصفوف، على الرغم من أنه، كائنا من كان في قصر الاليزيه، لا يمكنه تجاهل المسلمات الأساسية الفرنسية. ومنذ تسنمه المنصب وحتى اليوم يرفع ماكرون راية الإصلاح، ويطرح أفكارا جديدة على الساحتين الداخلية والخارجية، انطلاقا من «إن العالم بحاجة إلى فرنسا أكثر من أي وقت مضى»، على حد قوله في خطاب التنصيب. فهو يرى أن باريس قوة تقليدية، يجب أن تكون موجودة في النزاعات التي تدور في العالم طرفا أو وسيطا. كما يعتقد بأن بلده قد دفع ضريبة كبرى في أمنه، عندما حصلت تفجيرات باريس ونيس، وبالتالي يجب استثمار ذلك في حراك فعال، وخلق تحالفات وبناء مصالح حقيقية. كل هذه دوافع مُحرّكة لكل هذا النشاط السياسي والجولات الخارجية التي يقوم بها ماكرون. لكن السؤال المهم هو، هل أن سياسة ماكرون هي تكريس لمبادئ فرنسية تقليدية؟ أم هي محاولة لتعزيز نفوذ باريس الخارجي ومنافسة قوى أخرى على الساحة الدولية؟
إن استراتيجية الأمن القومي الفرنسية تقوم على محور أساسي مهم جدا، هو محور استراتيجي يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي مرورا بالبحر الابيض المتوسط والبحر الأحمر. ومن هذا المحور الاستراتيجي تم الانتقال من منطقة النفوذ إلى ما يسمى قوس الأزمات، وهما حوض البحر الابيض المتوسط وإفريقيا الذي تتركز فيه الاستراتيجية الامنية والدفاعية الفرنسية. قوس الأزمات هذا تأتي منه الهجرة غير الشرعية إليها، ومنه يطل عليها ما يسمى الارهاب أيضا. ولو ترجمنا نظرية الأمن القومي الفرنسية على الارض فإن الحقائق التي تظهر لنا تشير إلى: أولا، فرنسا دولة أوروبية أطلسية ومتوسطية. وهذا يعني أنها لا يمكن أن تتجاوز الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو بسهولة. وبالتالي فهي مضطرة لان تكون سياستها موائمة لهذا الانتماء، ومُلبية لمستحقاته.
ثانيا، لابد أن تتواجد عسكريا في قوس الازمات وتقوم بعمليات وقائية في مسارحه، مثال ذلك تدخلها في مالي ضد «القاعدة»، وتواجدها في النيجر من أجل وضع اليد على اليورانيوم، وفي ليبيا وجيبوتي لديها قواعد عسكرية، وقاعدة بحرية في أبو ظبي، وتدخلت في سوريا عسكريا، كما شاركت في الحرب ضد تنظيم «الدولة» في العراق. هذا يعني أن ماكرون سوف يستمر في هذا المسار السياسي بدون تغيرات جذرية، لأنه هو العالم الجيوسياسي الواقعي الذي يختلف عن الخطاب الانتخابي الذي سمعناه منه. لكنه يسعى إلى تفعيل مبادئ الثورة الفرنسية، ومحاولة إعادة العظمة إلى فرنسا، حيث يقول ديغول «لا يمكن لفرنسا أن تحيا بدون عظمة». وهنا يحاول الرئيس الشاب التقاط ما أرساه شارل ديغول من توازن سياسي في العلاقات الخارجية، ويسعى جاهدا لتصحيح اتجاه بوصلة التحرك في المجال الدولي، مع التركيز على الاستقلالية كلما أمكن ذلك. هذا هو الطريق الوحيد الذي يعطي فرنسا دورا مهما، وليس التوسل بموقعها كعضو دائم في مجلس الأمن، أو بما تملك من ترسانة نووية. فالتقييم الأولي لوضع فرنسا في ذهنية ماكرون هو أنها تراجعت كثيرا في السنوات الأخيرة، إلى الحد أنها فقدت كل التأثير والامتيازات التي يمكن أن تحصل عليها بموجب العلاقات التقليدية لها في دول المغرب العربي على سبيل المثال. كما تقلص تأثيرها الثقافي المعتاد، وفقدت بريقها كوسيط في النزاعات، إلى حد أنها باتت لا تملك استراتيجية متماسكة لمواجهة التطورات في أهم منطقة في الخريطة الدولية، وهي المنطقة العربية.
وبناء على هذا التقييم فقد انتهج ماكرون طريقا أكثر وضوحا من غيره في وصف الأحداث والمشاركة في وضع الحلول للنزاعات الدولية، ابتداء من وصفه احتلال بلاده للجزائر بأنها جريمة ضد الإنسانية، ومسؤولية فرنسا في تحويل ليبيا إلى دولة فاشلة، وصولا إلى محاولة الدخول على مسار الازمة بين قطر ودول الحصار، وكذلك استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، ثم آخرها تأكيده للرئيس الفلسطيني بأن فرنسا ستعترف بالدولة الفلسطينية. هذه مؤشرات حقيقية على أن مسار الثورة الفرنسية قد عاد من جديد. أما على صعيد اوروبا فهو يحاول التقاط الفرصة التاريخية السانحة له اليوم. فالتغيرات في هذه القارة كبيرة خصوصا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، وتلكؤ المانيا بسبب الازمة السياسية الاخيرة، وهو يعلم بأنه موضع ترحيب في الاتحاد الاوروبي، بفضل راية الاصلاح التي رفعها، وبفعل النشاط السياسي الخارجي الفعال. فخطوط سياسته الخارجية العامة هي بناء تحالفات قائمة على المصالح الاقتصادية، والمشاركة العسكرية، واستغلال العلاقات التاريخية، خاصة في مستعمرات فرنسا القديمة. كما أنه ينادي بدبلوماسية جديدة قائمة على الواقع وليس على الأيديولوجيا. وفي خطابه في الصين كانت هذه النقاط واضحة جدا في منهجه حين قال «قررت اعتماد طريقة ترتكز على الاستماع والاقتراح والمضي قدما في بناء الثقة، لنرسم معا طريق الولاء والثقة المتبادلين». هذه السياسة المستقلة في اتخاذ القرار هي التي دفعت الصينيين ببذل جهد كبير كي تكون أول زيارة لماكرون في آسيا للصين. فقد قرأوا جيدا خريطة العلاقات الدولية ورأوا أن ماكرون يمكن أن يكون شريكا يمكن الاعتماد عليه، ومُحاورا استراتيجيا مهما للصين، بعد خيبة أملهم من ترامب، خاصة أنه يرى أن لديه رسالة تاريخية للعالم تقول بإمكانية أن تضع أوروبا يدها مع الصين لبناء مجتمع دولي جديد متعدد القطبية، لا تحكمه أمريكا وحدها. كما أنه بحاجة الى الصين في إفريقيا محاولا إقناعها بالمساهمة المالية في محاربة الإرهاب في الساحل الافريقي، وهي قضية أمنية مهمة جدا لباريس، حيث للصين نفوذ اقتصادي كبير فيها. هذه البراغماتية في التعامل يمكن أن تجعل ماكرون يسير على خطى النجاح، خاصة أنه يستثمر بذكاء كبير حنين الفرنسيين بأن يكونوا العنصر الاقوى في أوروبا.
ومع ذلك فقد فشل ماكرون في إيجاد حل لموضوع الذاكرة التاريخية في زيارته الاخيرة للجزائر، على الرغم من أنه عندما ذهب اليها في حملته الانتخابية، قال صراحة إن الاستعمار جريمة ضد الانسانية. لقد بدا وكأنه غير قادر على الاعتذار عن فترة الاحتلال لهذا البلد، حتى أن رده على هذا المطلب كان غير مقنع إطلاقا. فالتعذر بأنه لم يكن مشاركا في صنع قرار الاحتلال ولا متواجدا في تلك الفترة، لا يعفيانه من مسؤولية رد الاعتبار الى الجزائر والجزائريين الذين عانوا من تلك الفترة، لأنه الان رئيس الجمهورية الفرنسية والوريث الشرعي لإرث الجمهوريات الفرنسية التي سبقته. فالذاكرة التاريخية حق من حقوق الشعوب، ينبغي لمن يريد أن يصنع مجدا أن ينصفها وهو في موقع السلطة وليس بعد أن يغادرها.
باحث سياسي عراقي