مراحل محو الذاكرة بالعراق
هيفاء زنكنة
تراجع الاهتمام الإعلامي العربي والدولي، بالعراق، بلدا وشعبا، في السنوات الأخيرة، إلى حد لم يعد يذكر الا في الصفحات الداخلية كخبر ثانوي قلما يسترعي الاهتمام. تزداد سطوره أو مساحته الإعلامية، فقط، حين يصاحبه تفجير يتجاوز عدد ضحاياه حدا معينا. للإحصائيات، في هذه الحالة، جاذبيتها الخاصة. كأن هناك كتيب إرشادات تم توزيعه على أجهزة الاعلام يتضمن كيفية طمر احتلال بلد وتدميره بأسلوب تدريجي، ناعم، لا يخدش ضمير المواطن.
أمريكيا، هناك حرص عام على تطمين المواطن بأن ما تقوم به حكومته أخلاقي يهدف إلى نشر السلام ولو عن طريق الحروب. يحتل الاعلام دورا أساسيا في هذه العملية. يبين مقال نشره موقع « تروث آوت» ان أفضل وأسرع طريقة اتبعت لمحو جريمة غزو العراق واحتلاله من ذاكرة الشعب الأمريكي، هي عبر تقليص الاهتمام الإعلامي تدريجيا. كانت تغطية صحيفة «النيويورك تايمز»، الامريكية، لأحداث العراق، مثلا، قبل انسحاب القوات قد بلغت 1848 مقالة عام 2006. ونشرت 1350 مقالة عام 2007 ثم انخفض العدد إلى 359 في 2011.
تقليص الاهتمام لم يتم عبر تقليل المقالات، فحسب، ولكن من خلال التحكم بنوعيتها ومصادرها. فاقتصار التغطية الصحافية على تداول الاخبار والتحليلات الجاهزة (بعد ترجمتها فيما يخص العالم العربي)، من وكالات انباء يعمل معظمها، في ظل سياسة «محاربة الإرهاب»، جعل المصادر الأولية المعتمدة للأخبار، هي القيادات العسكرية والرسمية وليست الصحافة، المستقلة. مما أدى إلى ضمور الصحافة الاستقصائية.
وبينما دفع تحول العراق إلى ساحة حرب، مستديمة، إلى ابتعاد الصحافيين حفاظا على حياتهم، وحقق تهديد الصحافيين المستقلين، واستهدافهم، منذ أيام الاحتلال الاولى، نجاحا يحسب للمحتل الامريكي أولا ولميليشيات الأحزاب الحاكمة ومافيا الفساد، ثانيا.
عربيا، حتى في البلدان التي تظاهرت شعوبها، بحماس، في الفترة السابقة للحرب، وساهمت بأكبر مظاهرة شارك فيها الملايين من جميع ارجاء العالم، ولأول مرة قبل الحرب، يلاحظ خفوت الأصوات او اختفاؤها. وتظهر الصورة بأكثر الوانها قتامة، عند مرور الذكرى السنوية لشن الغزو والاحتلال، حيث يفترض استعادة الذاكرة الشخصية والجماعية للجريمة الكبرى، فتمر الذكرى، كما في السنوات الأخيرة، بدون ان تلاحظ.
حيث مرت ذكرى الغزو، في العام الماضي، كأنه سر يجب ان يبقى طي الكتمان.
الجانب الآخر الذي يتستر عليه الاعلام الغربي والعربي، بتعاون سياسي محلي، هو خروقات حقوق الانسان التي يعيشها المواطن بشكل يومي. بدءا من الاعتقال والتعذيب والاعدام وانتهاء بفرض العقوبات الجماعية. هناك سيرورة منهجية لمحو المسؤولية عن جهات إجرامية معروفة، هي جزء لا يتجزأ من الحكومة العراقية والأحزاب المشاركة فيها، بذرائع تتغير وفق الحاجة مع إبقاء صخرة «الحرب على الإرهاب» جاثمة على الصدور. يحاول عدد من المنظمات الحقوقية الدولية اختراق حاجز التضليل عبر تقاريرها الموثقة للانتهاكات والجرائم الا انها تبقى، على أهميتها، هامشية بالمقارنة مع أجهزة الاعلام التي تحتل مركزا، عاليا، في سلم أولويات الميزانيات العسكرية والحكومية.
لهذا تكاثرت أجهزة الاعلام بسرعة نمو نبات الفطر وبالتحديد القنوات الفضائية. اذ يكفي ان تتجول بين القنوات الفضائية حتى تجد ان القنوات العراقية تحتل حيزا كبيرا بالمقارنة مع بقية البلدان. وهي، كما أجهزة الاعلام العربية، تعتمد على وجبة الاخبار الجاهزة من وكالات الانباء العالمية، كما بقية الدول العربية، وان كانت، والحق يقال، تتجاوزها بإضافة وصفة المحاصصة الطائفية والعرقية والميليشياوية.
في الأسابيع الأخيرة، مثلا، تحدث العديد من المسؤولين العسكريين الأمريكيين عن ضرورة إبقاء القوات الامريكية في العراق إلى ان «يتم القضاء على داعش نهائيا»، أي لأجل غير مسمى، مما يذكرنا بالمعاهدة الاستراتيجية التي تم توقيعها مع الإدارة الامريكية عام 2011، وتمنح الإدارة الامريكية حقوقا تنزع كل مفاهيم السيادة عن العراق لأجل غير مسمى. سارع مكتب رئيس الوزراء، إلى اصدار بيان يكذب التصريحات، وان القوات الامريكية ستشرع بالانسحاب، فقامت أجهزة الاعلام العراقية والعربية بنشر البيان، كما هو بدون ان تقوم بتدقيق صحة الادعاء او اضاءة جوانب لم يتطرق اليها البيان، أو تقديم معلومات تساعد المواطن على معرفة، ما يجري فعلا، أو تشجيعه على تمحيص ما يقدم له. بعد يوم من اصدار بيان مكتب رئيس الوزراء، قامت الإدارة الامريكية بتكذيب التكذيب، مؤكدة بقاءها في العراق. وكان موقع «غلوبال ريسيرج» الأمريكي، قد أكد، في 23 كانون الثاني، وجود ستة قواعد عسكرية للولايات المتحدة في العراق وليست هناك نية لأغلاقها. ودخل قائد مليشيا «عصائب الحق» على الخط ليصدر إنذارا إلى القوات الامريكية بتحويل حياتهم إلى جحيم في حال بقائها إلى ما بعد الانتخابات.
يساهم النقل الإعلامي الحرفي لهذه البيانات والتصريحات، من التباس الصورة لدى المواطنين، ويزداد الامر سوءا حين يتم بثها بلا تحليل موضوعي يوفر للمشاهد أرضية التفكير واثارة التساؤل. هنا يصبح الصمت، بمعنى عدم التحليل وابداء الرأي، تواطؤا في مسار التجهيل المتعمد ومحو الذاكرة الذي أسست له الصحافة الغربية، بامتياز منهجي، منذ تسعينيات القرن الماضي، استعدادا لغزو العراق، حسب مشروع القرن الأمريكي الجديد.
«ان الحرب على العراق من أكثر الجرائم خطورة، بلا شك، ضد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية»، يقول الدبلوماسي السويدي المخضرم سفيركر آستروم. جريمة أدركت الشعوب ضررها، مسبقا، فخرج عشرت الملايين للاحتجاج عليها في كل بلدان العالم قبل ارتكابها وبعده، مما أسهم، بشكل غير مباشر، في دعم المقاومة العراقية التي أفشلت مشروع القرن الأمريكي، واضطرته لترحيل اكثر من 185 الف جندي أمريكي من العراق.
استدعى طمس هذه الجريمة من دول العدوان تحويل الأنظار، بمراحل، تصنيع أكاذيب كبرى. كانت المرحلة الأولى اكذوبة أسلحة الدمار الشامل والخطر الماثل على أوروبا، وحقوق الإنسان والنساء، والثانية أكاذيب محاربة القاعدة و«فلول النظام السابق» التي اتهمت بها المقاومة العراقية الشعبية. ثم جاءت مرحلة فرق الموت التي اشعلها السفير الأمريكي جون نيغروبونتي وقائدا الفرق الخاصة اللذان عملا معه في السلفادور، كاستل وجون ستيل لتصور الصراع طائفيا واثنيا في العراق. بعد فترة، أنقذت الولايات المتحدة جلدها عبر انشاء عملية سياسية طائفية بالتجاذب مع إيران. مع انتفاضة الربيع العربي، عادت أمريكا فجرت العراق في ساحة الصراعات الإقليمية والدولية الأكبر تحت لافتات طائفية من جهة ولافتات محاربة إرهاب تنظيم «الدولة الإسلامية» من جهة اخرى.
الآن، في مسار محو الذاكرة، يقوم الاعلام المؤدلج، بالترويج اليومي، لأكذوبة ان كل الدمار الذي شهده العراق منذ التسعينيات وسنوات الحصار، وغزو 2003، والتعامل الوحشي مع المدن في مجرى التعامل مع المقاومة العراقية، هو نتيجة الحرب على تنظيم « الدولة الإسلامية» بما يضمنه ذلك من التغاضي عن المسؤولية القانونية الدولية والأخلاقية.
من هنا حاجتنا إلى استمرار تذكير أنفسنا والعالم بحقائق التاريخ القريب، لا رغبة بالانتقام ولكن لنعيد للعدالة مفهومها الحقيقي ولئلا تتكرر الجرائم.
٭ كاتبة من العراق