هل يصلح التكنوقراط ما أفسدته العملية السياسية
د. مثنى عبدالله
February 22, 2016
ألقى رئيس الوزراء العراقي حجرا جديدا في المستنقع الآسن للعملية السياسية، حينما دعا إلى تشكيل حكومة تكنوقراط، وزراؤها من المختصين وليسوا من الأحزاب والكتل السياسية، التي احتكرت المشهد منذ عام 2003 وحتى اليوم.
هل هذه الدعوة تحريك أم تغيير؟ وهل هي خطوة خالصة لوجه الشعب العراقي وحاضره ومستقبله، أم أنها مجرد مساحيق تجميل للوجه البشع الذي عشناه على مر ثلاثة عشر عاما؟
الإجابة على هذه التساؤلات صعبة للغاية في ظل انعدام الثقة بالإصلاح، حيث لا معطيات حقيقية تشير إلى المُراد من ذلك، خاصة أننا سمعنا مئات المبادرات التي قالوا إن هدفها التغيير، كما سمعنا آلاف التصريحات المنددة بالكوارث ونهب المال العام، واتهامات الساسة السنة للساسة الشيعة بالفساد، والساسة الشيعة للساسة السنة ببيع الوزارات، لكن الذي حصل هو استبدال الفاسد بالفاسد، والطائفي بالطائفي، ثم بقي المشهد على حاله بدون تغيير يذكر. المشكلة الاساسية تعدت الشخوص وباتت مشكلة مستعصية في بنية العملية السياسية نفسها، وبذلك فالخطر أكبر مما يتصوره رئيس الوزراء أو غيره، كما أنه يتعدى موضوع الحاجة إلى حكومة تكنوقراط أم لا. لقد كان ومازال المعيار الأساسي لوصول رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الوزراء إلى مناصبهم، هو العامل الطائفي وما تسمى موازنات المكونات للشعب العراقي، وهذا اعتراف ضمني بعدم وجود أي نية حقيقية لتجاوز هذه العتبة، بل إنها وبمرور الوقت أصبحت لها قوة القانون، على الرغم من أنها ليست مثبتة في الدستور العتيد. إذن كيف تستقيم التوازنات الطائفية مع التكنوقراط؟ ولأن من يمتلك السلطة في العراق يمتلك أيضا القوة الأمنية والعسكرية، فإن الاحزاب جلبت ميليشياتها وشكلت منها أجهزة أمنية وقوات عسكرية، ولو بحثنا اليوم في المشهد السياسي العراقي عن الجهة التي تقود السلطة، لرأينا بوضوح أنها ليست بيد الشعب، وليست بيد السياسيين الذين يتبوؤن المناصب، بل هي تتركز في أيدي الميليشيات وزعماء الكتل السياسية، وهذه هي التي تُملي ما تريد، وتصنع ما يحلو لها من قرارات وقوانين. فكيف تتخلى عن ذلك لحكومة تكنوقراط؟ هذا التشتت في مصدر القرار وخواء المناصب السيادية من قوة القانون والتمثيل الحقيقي للشعب، حال دون التوصل إلى إجماع بين الدولة والمجتمع، وهو ما أدى إلى تعطيل التنمية السياسية والبشرية والاقتصادية، وإرباك النظام العام، فانطلق المجتمع والدولة معا في اتجاهات مختلفة وبصورة متعارضة تماما. صحيح أنه لا يمكن إيجاد رضى عام من جميع طبقات الشعب على ما تقوم به الدولة، أي دولة كانت، لكن ما يبعث على الاطمئنان لدى الطرفين، الدولة والشعب، هو تفهم كل طرف لمراد وظروف الآخر، وبالتالي ستهبط نسبة الاعتراض على مسيرة الدولة إلى خطوط بيانية طبيعية.
لكن هذا غير موجود في المشهد العراقي، والدليل على ذلك التظاهرات التي خرجت لمدة عام في محافظات شمالية ووسطى، ثم تلتها تظاهرات عمت بغداد ومحافظات جنوبية، هي حواضن أحزاب الاسلام السياسي الشيعي، الذي يمتلك النسبة الكبرى في صنع القرار، بل إن الشعارات التي رُفعت فيها كانت تعبر وبشكل حاد جدا عن مستوى الرفض، وليس الاعتراض، على سياسات الدولة، وعلى النهب والفساد المالي الذي يجري. إذن نحن أمام خلل سياسي كبير يتطلب عملا جذريا وليس إعادة تشكيل حكومي بصيغة حكومة تكنوقراط، لأن الآليات السياسية التي أنشئت بغية المحافظة على النظام الحالي، لن تسمح بأن تأخذ حكومة التكنوقراط مدياتها الصحيحة في إحداث التغيير الجوهري، ثم أن السؤال الأهم هو من الذي سيرشح الوزراء التكنوقراط؟ أليس رؤوساء الكتل هم من سيرشحونهم؟ إذن نحن عدنا مرة أخرى إلى نقطة بداية الفساد، لأن من سيترشح سيبقى محكوما برضا زعيم الكتلة عنه، وسيبقى هو مرجعيته التي يعود إليها في كل شاردة وواردة، لأن زعماء الكتل جاءوا إلى الحكم بنظرية الحق الإلهي. يقول وزير الخارجية الحالي إن الحكومة العراقية حكومة ملائكية، وتقول نائبة عن أئتلاف دولة القانون بأن رئيس الوزراء السابق لديه تفويض إلهي بالعودة إلى السلطة. إذن ما قيمة الاختصاص والشهادة العلمية التي يحملها الوزير، وهي كلها امتيازات دنيوية، أمام وزير أو مسؤول آخر يحمل تفويضا سماويا من أحزاب الإسلام السياسي؟
أن ما يحتاجه العراق في ظل هذه الأوضاع الكارثية التي يمر بها، ليس الحكومة الملائكية، ولا من يحملون التفويض الإلهي، إننا بحاجة ماسة إلى حكومة صالحة ونزيهة وذات شعور عال بالمسؤولية، وهذه الصفات لا توجد حصرا في التكنوقراط أو في غير التكنوقراط، إنها توجد لدى كل من يملك ضميرا حيا، ويؤمن بأن الخدمة العامة هي خدمة للشعب والوطن، وهم كثر من العراقيين بمختلف طوائفهم وقومياتهم وأديانهم ومذاهبهم السياسية والدينية. فما الضير في أن يأتي وطني كردي يحكم العراق من أقصاه إلى أقصاه بعدل وإنصاف ونزاهة؟ وما الضير في أن يأتي شيعي أو سني يقوم بالدور نفسه، بدون صراخ من الآن بضرورة تمثيل طوائفهم وقومياتهم ومذاهبهم في كل منصب؟ ما الذي جناه العراقيون من خلطة الكردي والشيعي والسني في كل مناصب الدولة، غير السرقة والفساد والقتل والدمار وتبديد المليارات؟ وهي التي أوصلت العراق اليوم إلى أن يكون أمام رُعبين حقيقيين، رعب الأزمة الاقتصادية التي تهدد لقمة العيش لشعبه، ورعب الحروب التي تدور على أرضه بين قوى محلية وأقليمية ودولية تهدد وجوده. وقد تكون حكومة التكنوقراط صفقة اضطرارية لإعادة التخندق فرضها هذان الرعبان، ومجرد تنازل جزئي تجنبا لتنازلات أكبر.
إننا نرى أن الوضع السياسي الطائفي القائم في العراق لن يسمح بقيام أي شكل من أشكال الحكومات المتعارف عليها، ولن تكون علاجا ناجعا لخروجه معافى من المحن التي ألمّت به. فحكومة اللون الواحد الحزبية الطائفية سينظر إليها الشارع بعين الريبة، ما يجعل رئيس الوزراء فيها يفقد وسطيته، لأن لا مجال لأن يكون وسطيا وهو من لون واحد. وحكومة الوحدة الوطنية سيتم تكبيلها من طرف لطرف، لأنه لا اتفاق ممكنا على كل المواضيع المختلف عليها، وإذا جاءت حكومة أقطاب لهم سلطة في الشارع سوف نصل إلى أزمة حقيقية في الحوار. أما إذا جاءت حكومة تكنوقراط من أصحاب الكفاءة والاختصاص، وبدون لون سياسي فاقع، فإن الأطراف التي تعتبر نفسها أكثرية ولها حق إلهي في السلطة، سينظرون إليها على أنها لن تمثلهم. الحل الوحيد هو التغلب على الانقسام الجوهري الذي سبب تحديا حقيقيا للوطن، راديكالية هذا الانقسام ولونه المذهبي، لن يسمح لأي رئيس وزراء أو حكومة أن يقوموا بمهامهم، كما أنه لن يعيد السلطة إلى عموم الدولة، ولن يسمح بمركز قرار سياسي واحد.
باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله