السعودية وحليفها الذي تُشيطن… محاولة للفهم
د. مثنى عبدالله
سبعون عاما والمملكة أرضا وبحرا وجوا ونفطا وأمنا وسياسة في السلة الأمريكية. كان صانع القرار فيها لا يخالجه أدنى شك بأن يوما ما سيأتي، فيضعها الحليف الأوحد في مرتبة أدنى من غيرها في سلم أولوياته، بل ويغازل عدوتها اللدود إيران ويعقد الصفقات معها، فيتحول من شيطان أكبر إلى ملاك يتشارك معها الحرب في العراق، ويتجنب لمصلحتها التدخل في سورية واليمن.
فكيف يتشيطّن الحليف الأوحد مع السعودية، ويتعقّل الشيطان الأكبر مع إيران؟ أنقول عجبا لهذا التحول؟ أم أن السياسة لا تعرف العجب؟
الثلاثاء المنصرم مرر مجلس الشيوخ الأمريكي اقتراح قانون، يسمح لذوي الضحايا والناجين من هجمات 11 سبتمبر عام 2001، بمقاضاة الحكومة السعودية والمطالبة بالتعويضات، لدورها المفترض في تلك الأحداث، ولم يتم التثبت حتى اليوم من وجود تورط للمملكة فيها، على الرغم من أن 15 من أصل 19 شاركوا في التنفيذ كانوا من السعوديين. وقد وافق أعضاء مجلس الشيوخ بالإجماع على مقترح القانون المذكور، وسيحال إلى مجلس النواب، حيث الاكثرية الجمهورية، وفي حالة تمريره سيصل إلى الرئيس أوباما للتصديق عليه أو نقضه.
المؤشرات الأولية تقول بأن مجلس النواب سيمرر القانون، لكن تصريحات الناطق باسم البيت الأبيض تؤكد أن الرئيس الأمريكي سينقض القانون ويسقطه، مما يجعله غير قابل للتطبيق. وفي حالة قيام الاخير بهذا الإجراء وفق صلاحياته الدستورية، فمن حق مجلسي الشيوخ والنواب إسقاط نقض الرئيس أوباما بتصويت ثلثي الاعضاء، وهذا الأمر ليس مستحيلا في الظروف الحالية، خاصة في قضية تتعلق بتعويضات لامريكان قتلوا فوق الأراضي الامريكية. موقف الرئيس الرافض للقانون يستند إلى الحصانة التقليدية للدول التي منحها القانون الدولي، ويخشى أن يُضعف القانون الجديد موقع الولايات المتحدة في مواجهة أنظمة قضائية أخرى في العالم، أي أن الرئيس يعتقد أن التشريع الجديد سيضع الالتزامات الأمريكية في العالم بمواجهة دعاوى قضائية في دول أخرى، خاصة أن الأمريكان لديهم قوات حفظ سلام، وما يسمى العمليات الإنسانية في الكثير من بقاع العالم, مما يُسقط الحصانة التقليدية التي يتمتعون بها.
المحاكم الأمريكية كانت ومازالت ترفض مقاضاة الدول والحكومات، وتمنحها حصانة من الملاحقة القانونية، استنادا إلى قانون عام 1976، لكن القانون الجديد سيُجرّد الدول من هذه الحصانة في القضايا الناجمة عما يسمى هجوما إرهابيا، يقتل فيه أمريكيون على أراض أمريكية، مما يعطي الحجة لدول وحكومات أخرى بمقاضاة الحكومة الامريكية أيضا، على انتهاكات قامت بها في بقاع العالم. وعلى الرغم من أن القانون المقترح فيه بند يسمح للمدعي العام الأمريكي التدخل لإيقاف أي دعوى قضائية، إن أكدت الادارة الامريكية بالوثائق أنها تفاوض الحكومة الاخرى لمعالجة المشكلة، لكن البعض يرى حتى مع وجود هذه الفقرة فإن القانون يُعرّض حصانة الدول للانتهاك والابتزاز. السؤال المهم هو، هل أن القانون الجديد يعني حصول قناعة لدى المشرع الامريكي بأن المملكة متهمة في أحداث 11 سبتمبر، أم أن الامريكان خرجوا من نطاق معادلة أمن الطاقة وأمن الحكم مع المملكة؟
في أعقاب أحداث سبتمبر عام 2001 تشكلت لجنة للتحقيق في ملابسات الحادث، وهم أعضاء من الكونغرس والاستخبارات، واصدرت تقريرا من 883 صفحة في عام 2004، قالت فيه ألا دليل على تورط المملكة حكومة وأشخاصا نافذين بالحادث، لكن بعض الجهات الامريكية أدعت بأن 28 صفحة من التقرير تم حجبها، بطلب من الرئيس السابق جورج دبليو بوش، على اعتبار أن المعلومات الواردة فيها مهمة جدا للامن القومي الامريكي، لكن بعض الجهات الامريكية بدأت مؤخرا بإشاعة الحديث، عن أن هذه الصفحات فيها معلومات مهمة تتعلق بدور سعودي مفترض بالهجمات التي حصلت، وهذه التكهنات تأتي في سياق متصل مع انتقادات واسعة بدأت تصدر من جهات عديدة في الولايات المتحدة، تنتقد السياسة السعودية على حد سواء في المجال الداخلي والخارجي، وبشكل علني يخالف ما كان معتادا في السابق، مما يؤكد أن صانع القرار الامريكي بدأ ينظر إلى استقلاليته النفطية، بما جعله ليس في حاجة إلى النفط السعودي، الذي على أساسه قامت معادلة أمن الطاقة وأمن الحكم، التي حكمت العلاقات السعودية الامريكية طوال العقود الماضية. ليس هذا وحسب، بل إن العلاقات بين البلدين دخلت منعرجا حادا في الولاية الثانية للرئيس الحالي، وعادة ما تعتبر الولاية الثانية لاي رئيس أمريكي على أنها السياسة الحقيقية التي يعتمدها، حيث توترت العلاقات بينهما في ضوء توقيع الاتفاق مع إيران، وفي أعقاب تخلي الرئيس أوباما عن خطوطه الحمراء التي وضعها للرئيس بشار الاسد. كما كان هنالك خلاف واضح بين الطرفين في رؤيتهما لمن هو العدو الاول. فالامريكان يعتبرون الاسلام المتشدد هو العدو الحقيقي، بينما ترى المملكة أن إيران هي العدو رقم واحد الذي جذب الارهاب. وقد حاولت المملكة إثارة انتباه الحليف الامريكي برسائل عديدة، منها محاولاتها تنويع علاقاتها مع روسيا وفرنسا والصين، لكنه لم يأبه بكل تلك الرسائل، حتى كان تهديدها الأخير ببيع سندات خزينة أمريكية قيل إنها بقيمة 750 مليار دولار مع أصول أخرى، إن تم إقرار القانون الاخير، لكن الرد الامريكي جاء في التاسع من الشهر الجاري. فلاول مرة منذ أربعة عقود تنشر الخزينة الامريكية الارقام الرسمية للاصول والسندات الاجنبية المودعه في الولايات المتحدة، حيث أشارت إلى أن قيمة السندات السعودية تبلغ 116 مليار دولار. وفي هذا الكشف رسالة واضحة للسعودية وللاخرين تقول، ليس هنالك من تهديد جدي على الاقتصاد الامريكي إن سحبت المملكة أموالها.
كل هذه المنعرجات تعطي انطباعا بأن العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة ليست كسابق عهدها. قد يكون من الصعب نسبيا إقرار القانون الجديد في ظل إدارة الرئيس الامريكي الحالي، لكن يمكن أن يتم ذلك في الإدارة المقبلة، خصوصا أن المرشحين الديمقراطيين للانتخابات الامريكية هيلاري كلينتون وساندرز أعلنا دعمهما لمشروع القانون. لكن إقراره ستنتج عنه تداعيات كبيرة وخطيرة ليس على العلاقات بين الدولتين وحلفهما وحسب، بل ستتأثر علاقات الولايات المتحدة مع غالبية دول الخليج وبعض الدول العربية الأخرى أيضا، التي بدت وكأنها في حلف إستراتيجي مع المملكة في الاونة الاخيرة. وإذا كان العراق وأفغانستان هما الضحيتين الأبرز في موضوع أحداث 11 سبتمبر، فإن العلاقات الامريكية – السعودية الخليجية ربما ستكون الضحية الثالثة لتلك الاحداث، إن تم أقرار القانون الجديد.
يقول المتحدث باسم الرئاسة الامريكية، إن مبعث قلقنا من هذا القانون لا يتعلق بتداعياته على علاقاتنا مع دولة محددة، بل لارتباطه بمبدأ مهم من مبادئ القانون الدولي وهو حصانة الدول. هذا الحديث يخالف تماما السياسة الامريكية التي عرفناها خلال عقود طويلة، والتي لم تحترم لا من قريب ولا من بعيد حصانة الدول وسياداتها وشرعية حكوماتها، والامثلة على ذلك كثيرة. لكن قلقهم الاكبر في هذا الموضوع هو، أن القانون قد يكلف الولايات المتحدة ثمنا باهظا من خلال مقاضاتها بجرائم حرب، والمثال الابرز في هذا الجانب هو الطائرات الامريكية بدون طيار، التي قتلت الكثير من الابرياء في أنحاء شتى من العالم، كما أن الغزو العسكري للعراق وأفغانستان مثلا، قد يكلفها تعويضات بأرقام خيالية مستقبلا، إنه الجانب الارتدادي من قانون مايسمى العدالة ضد رعاة الارهاب.
٭ باحث سياسي عراقي