ما هي الرسالة السعودية التي حملها وزير خارجيتها إلى بغداد؟
د.مثنى عبدالله
تتنفس المملكة العربية السعودية الصعداء كل يوم وهي تسمع تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب وفريق عمله المناوئة لإيران. لقد سئمت تلك اللعبة المملة والخطرة التي مارسها الرئيس السابق أوباما حين وضعها على الرف كحليف قديم لا هي طالق ولا هي على ذمته. فذهب بعيدا في الحوار والاتفاق مع عدوتها إيران مُفرجا عن مليارات الدولارات كي تعود إلى خزائنها ثم تتحول بعد حين إلى عتاد حربي وتمويل إلى ميليشياتها التي تطبق أذرعها على خريطة المنطقة فتحاصر الرياض من أرض اليمن والعراق وسوريا ولبنان والبحرين. وها هي عادت مرة أخرى وبغطاء الحليف الأمريكي تبحث عن تحقيق مسلماتها الاستراتيجية، فكانت زيارة وزير خارجيتها إلى بغداد في الخامس والعشرين من شباط/فبراير الماضي.
لقد وقع الكثير من المراقبين في الخطأ حينما وضعوا الزيارة في سياق ما سموه بتطور طبيعي لمستوى العلاقات بين الرياض وبغداد، أو كما وصفها البعض بأنها قفزة في هذا المجال. صحيح ان هناك تنسيقا استخباراتيا بين العراق والسعودية لتتبع الذئاب المنفردة التي تفر من الحرب الدائرة في الموصل والأنبار، خوفا من عودتهم إلى دولهم، لكن من فرضه هو صاحب القرار الأمريكي في غرفة العمليات المشتركة التي تقود الحرب على ما يسمى الإرهاب، ولم يأت في سياق النظرة الموحدة للموضوع القومي المشترك، بل هو حتى أقل من التنسيق الاستخباراتي مع الأردن وغيرها مثلا والجاري على قدم وساق. كذلك صحيح أن التنسيق بينهما مطلوب لان هناك 200 سجين عراقي في السجون السعودية وحوالي 100 سجين سعودي في السجون العراقية، والطرفان يحاولان متابعة هذا الملف بأقل الخسائر. لكن كل هذه المؤشرات ليست دلائل على وجود علاقة صحيحة وصحية بين الجانبين. فوزير الخارجية نفسه الذي زار العراق كان قد صرّح في مؤتمر الأمن الذي انعقد في ألمانيا قبل بضعة أيام من زيارته إلى بغداد منتقدا الحكومة العراقية، ومتهما اياها بأقصاء السنة من المشاركة السياسية، وداعيا إلى تطبيق الاصلاحات التي تم الاتفاق عليها في عام 2014 في العراق، كي تثمر جهود التحالف الدولي لمكافحة تنظيم «الدولة». أما بالنسبة للطرف العراقي، فان الجهات السياسية التي تحتكر السلطة ما زالت تنظر إلى السعودية على أنها الصمام الذي أغلق الانفتاح الخليجي خاصة والعربي عموما أمام العراق. ويرون بأنها هي التي تقف وراء كل الحملات الإعلامية والسياسية العربية والدولية التي تصف العراق بأنه دولة الميليشيات، وأحد أذرع السياسة الإيرانية في المنطقة. ولو قرأنا تصريح الناطق باسم مكتب رئيس الوزراء العراقي حول الزيارة، فقد كان يركز على دعوة السعودية لبذل جهود كبيرة في محاربة الفكر المتطرف. هذا يعني أن العراق وبرغم الزيارة فأنه ما زال يرى أن السعودية هي مصدر هذا الفكر، وأنها لحد الآن ليست جادة في تفتيت المؤسسات التي تُصدّر هذا الفكر حسب الرؤية العراقية. أذن أين هو التطور الطبيعي للعلاقات بين البلدين؟ لا يوجد. كما أن التفاؤل المفرط في هذا المجال غير واقعي أطلاقا، لان ملف الطرفين مُحمّل بالقضايا المهمة والشائكة، وانعدام الثقة هو القاسم المشترك بينهما، وكل ذلك يتطلب جهدا ووقتا ولا يمكن القفز من فوق كل هذه الموانع.
أن دول الخليج العربي ذات نظم سياسية ومجتمعات مبنية على أساس الرفاهية، وأن أي حروب أو صراعات سواء داخل حدودها الجغرافية أو في محيطها تؤثر عليها سلبا، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأمنيا، وتوقظ النعرات بكل أشكالها في مجتمعاتها. أن فائض القوة العدوانية الإيرانية تجاه السعودية والخليج بصفة عامة أصابهم بالقلق، وأن تحرك أمريكا – أوباما تجاه إيران بعيدا عنهم زاد من قلقهم، والقلق يصيب الدول كما الإنسان فتصبح خائفة من كل شيء حولها، فتحركت الرياض لدرء الخطر. اليوم هناك إدارة أمريكية جديدة تريد فض الموقف الأمريكي المزدوج تجاه إيران، الذي مارسته الإدارة السابقة حينما كانت تدين ممارساتها وتمد يد التحالف معها في الوقت نفسه، كذلك عزل إيران عن محيطها ثم نزع مخالبها. وأولى الساحات التي نزل إليها الموقف الجديد هو العراق، فشرعت معه بانتهاج سياسة قوامها العمل على فك ارتباطه بإيران، أو تحييده في أضعف الايمان في الوقت الراهن. كما أن اليمن هو الآخر بدأت أمريكا التحرك فيه فعليا بعد حادثة ضرب الفرقاطة السعودية. كما يجب أن نقرأ الموقف التركي من إيران جيدا أيضا، فقد تغير بعد وصول الإدارة الجديدة، من داعم للجهود الإيرانية في سوريا، إلى وصفها بأنها عنصر ارباك واعاقة للحل السياسي فيها. يضاف إلى ذلك بداية أفول تنظيم «الدولة» ماديا على الاقل، والذي بات يطرح سؤالا مستفزا، وماذا بعد أنهاء وجوده العسكري في العراق وسوريا؟
كل هذه المتغيرات مشفوعة بتمنيات لأطراف دولية واقليمية وعربية بفتح حوار سعودي مع العراق، دفعت الرياض لإرسال وزير خارجيتها إلى بغداد. حمل الرجل رسالة شفهية تقول بان المتغيرات الآنية والمستقبلية في المنطقة ليست في صالح العراق الإيراني، وأن هناك تحالفا عربيا – أمريكيا مقبلا ضد السياسات الإيرانية، وأن ليس من مصلحة العراق الانخراط في الحرب في سوريا، بعد اشتراك طيرانه في قصف مواقع داخل أراضيها، وأن ما بعد تنظيم «الدولة» مختلف وله استحقاقات مختلفة على الحكومة العراقية. ثم تمنى أن تكون هناك إجابة واضحة على السؤال التالي، هل رئيس الوزراء لديه الرغبة في العودة إلى الحضن العربي والتخلي عن الحضن الإيراني، مقابل الشروع في إقامة علاقات اقتصادية سعودية – خليجية – عربية – عراقية وكذلك علاقات سياسية ودبلوماسية وأمنية كاملة؟
الواضح هنا أن الزيارة ورسائلها كانت موجهة في الأساس إلى رئيس الوزراء دون الأطراف الأخرى. لان الأطراف الدولية تعتقد أنه رغم أن الرجل أضعف الحلقات في سلم السلطة، لكنه ميال إلى قيام علاقات متوازنة مع إيران وضد الشكل الحالي من الهيمنة، كما أنه يرغب في إقامة علاقات بين العراق والعرب. لذلك لم يلتق الوزير الجُبير بأحد غيره، حتى رئيس البرلمان السني الذي كان مستعدا للقاء وعلى علم به قبل يوم، تجنبه الوزير لان السعودية تعتقد أنه قد مال كثيرا إلى الحضن الإيراني، وبات كثير السفر إليها ويدافع عن وجودها في العراق ويبرره. أذن هناك رغبة دولية وإقليمية وعربية بالمراهنة على رئيس الوزراء الحالي. وهم يعتقدون أن تقديم الدعم له يعطيه قوة هو يفتقدها ويتوق إلى الحصول عليها للتوازن مع الآخرين كي يستطيع النأي بالعراق عن إيران، خاصة عندما يكون هناك انفتاح اقتصادي كبير على البلد من دولة بحجم السعودية ودول الخليج مجتمعة، عندها يُجيّر الدعم الشعبي له ويصبح ناجحا في نظر الكثير من العراقيين.
ما حدود النجاح والفشل في هذا الموضوع؟ سنتناوله في مقال الأسبوع المقبل.
باحث سياسي عربي